تداعيات أسر الصهاينة الكاتب والأكاديمي/ عبد الستار قاسم
كسرت أخبار اختفاء جنود صهاينة صمتا مذهلا في الضفة الغربية التي عانت من ركود المقاومة الفلسطينية على مدى سنوات>
ظن الناس أن الضفة قد مات فيها نفَس المقاومة، وأنها أصبحت مجرد مرتع وملعب للجيش الصهيوني والمستوطنين، جاءت عملية أسر الجنود ضربة قوية هزت النفوس وأيقظت المشاعر والأحاسيس الوطنية، وبثت في الناس آمالا جديدة تمزج حب الوطن بمتطلبات التضحية والفداء.
كانت عملية الخطف حيوية فيما يتعلق بإيقاظ الضمير الوطني لدى العديد من الناس، والشعب ما زال بحاجة إلى هزات أخرى لكي ينفض عن نفسه الغبار المتراكم عبر السنين.
حقائق عن الأسر
حتى لا نقع بسوء التحليل، من الضروري إبراز الأمور التالية كحقائق، لا يمكن للتحليل أن يكون دقيقا دون أخذها بعين الاعتبار:
- عملية الأسر حقيقية، وهي ليست مجرد مسرحية صهيونية لتحقيق أهداف باطنية، لقد أعلنت دولة الاحتلال أن اختفاء الجنود أو المستوطنين عبارة عن "اختطاف"، وهي لم تعلن ذلك إلا بعدما فحصت معاييرها المختلفة التي يتحدد وفقها تصنيف "الاختطاف"، ودولة الاحتلال ليست متسرعة في العادة في إعلاناتها، وهي تستند إلى خبرائها قبل أن تنطلق ألسنة السياسيين بالتصريحات.
- لا نعلم حتى الآن شيئا عن الجهة الآسرة، ونتنياهو أعلن أن الآسر هو تنظيم حماس لكنه لم يقدم أدلة وإنما قدم قرائن، والقرائن لا تكفي للإثبات، وحماس لم تعلن شيئا، وكذلك لم يفعل أحد على الساحة الفلسطينية.
الآن هو موسم إضراب الأسرى الإداريين الفلسطينيين، وأسر صهاينة يبعث الأمل لدى الفلسطينيين عموما ولدى المضربين خصوصا.
وواضح أن دولة الاحتلال لن تستجيب لمطالب الإفراج عن الأسرى، وهي لن تفعل ذلك إلا إذا أرغمت على ذلك، والتبادل هو إرغام لدولة الاحتلال، ولا يوجد لديها بديل عن التبادل عندما يقع أبناؤها في الأسر.
- دولة الكيان تتخبط في أقوالها وأفعالها، وهذا انتصار للآسرين لأنهم منعوا عن دولة الاحتلال طرف خيط من المعلومات يمكن أن تبني عليه، وقادة الاحتلال يصرحون بدون رصيد معرفي، ونتنياهو يعلن أن الخاطف هو حماس دون أن يملك معلومة، أما ليبرمان فيقول إن دولته لن تبادل الأسرى، هذا قول فيه سذاجة وجهل، وكأن ليبرمان لم يقرأ تاريخ عمليات تبادل الأسرى بين دولة الاحتلال والفلسطينيين.
- الخاطفون محترفون أمنيا من حيث إنهم لم يتركوا خلفهم ما يدل عليهم، ولم يتفوهوا بتصريحات تساعد الاحتلال على تتبعهم، اتبع الآسرون معايير أمنية دقيقة لم تشهد الساحة الفلسطينية مثلها عبر سنوات المقاومة ضد الاحتلال.
الحرص الأمني
إذا كان الآسرون فلسطينيون فإن العملية تشير إلى تطور في المفاهيم الأمنية الفلسطينية، واستراتيجية أمنية جديدة تعتمد الكتمان المطبق، حصل عبر الزمن أن استهترت المقاومة الفلسطينية بالسرية وأهميتها في مواجهة الاحتلال، وبقيت عرضة للاختراقات الأمنية الصهيونية والعربية، ووصل الحد إلى أن يشي المقاوم الفلسطيني بنفسه خاصة في بوح أسراره للآخرين بدافع المفاخرة وإثبات البطولة.
لقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا نتيجة التسيب الأمني، واستطاعت دولة الاحتلال أن تصل بسهولة إلى المقاومين بسبب اختراقها الصفوف، ووقوفها عند أدق تفاصيل نشاطات المقاومين.
بدأت المقاومة منذ سنوات خطة أمنية جديدة من شأنها تنظيف صفوف المقاومة من المتخابرين والجواسيس، وقد حققت المقاومة نجاحا واضحا في هذا المجال كان ظاهرا إبان الحربين اللتين شنتهما دولة الاحتلال على قطاع غزة، لكن المقاومة لم تتمكن من تنظيف صفوف الجماهير حتى الآن من هؤلاء المتخابرين.
تدل عملية الأسر -إن كان الذين قاموا بها فلسطينيين- على أن الحس الأمني لدى المقاومة قد تطور بصورة كبيرة، فقد سبق لها أن اختطفت جنودا لكنها فشلت.
وهنا نذكر بعملية اختطاف الجندي فاكسمان، إذ خسرت المقاومة العملية بسبب اتصال هاتفي، هذه المرة لم يستخدم الخاطفون الجهاز الخلوي، ولم يستعملوا أي وسيلة إلكترونية، أو أي وسيلة اتصال من أي نوع آخر.
أصبح المقاومون يعلمون تماما أن الإشارة الإلكترونية لن تعود ملكهم بمجرد خروجها من الجهاز، وأن كل وسائل الاتصال الفلسطينية مخترقة تماما من قبل الصهاينة سواء كانت أرضية أو إلكترونية.
ومن المهم الملاحظة أيضا أنه من الممكن أن يكون الآسرون قد تخلصوا من أجهزتهم الاتصالية الخاصة مخافة أن تكون دولة الاحتلال قادرة على تحديد موقع الأجهزة فتهتدي إلى مكان الآسرين والمأسورين.
الاحتفاظ بالمأسورين
الاحتفاظ بالمأسورين ليست عملية سهلة، بل معقدة كتعقيد عملية الآسر، هناك حاجة إلى مكان ملائم صالح للحياة البشرية ويتمتع ببيئة تحفظ السرية.
من المفروض أن يكون المكان سريا وبعيدا عن أعين الناس وعن أعين أجهزة التنصت والاستماع الصهيونية، والمفروض أن يكون المكان صحيا حتى لا تتضرر صحة الآسرين والمأسورين، ومن أجل المحافظة على حياتهم، وأيضا يجب أن يكون المكان مزودا بوسائل الصرف الصحي والمياه والحمامات والتكييف الهوائي والتلفاز.. إلخ، والمهم ألا تكون مداخل المكان مكشوفة للعيان، وأن تكون مموهة بطريقة تصنع الالتباس لدى الناظرين.
سبق أن اكتشفت مخبأ للمقاومة في قرية عوريف جنوب مدينة نابلس، كان المخبأ مذهلا من ناحية التصميم والتجهيز إلى درجة أن الحمام كان يتحرك كهربائيا، ودون أن يظن الناظر أن الحمام متحرك، وكان واضحا أن المكان معد لاختطاف صهاينة، وأيضا تردد أنه اكتشفت مكانا آخر شبيها في منطقة الجورة بالخليل.
هذا يدل على أن المقاومة كانت تعد وتستعد لتنفيذ استراتيجيتها في أسر جنود صهاينة، وإذا كانت المقاومة هي التي أسرت المستوطنين فلا بد أنها قد أعدت المكان مسبقا، وطبعا عملية من هذا القبيل تحتاج إلى وقت طويل من التخطيط والإعداد وإلا يكون الفشل نصيبها.
وقد مرت عدة أيام منذ الأسر لساعة إعداد هذا المقال ولا يوجد مؤشر على أن دولة الاحتلال قد اهتدت إلى طرف خيط تبني عليه، مما يشير إلى أن العملية محكمة، وأن الآسرين قد تدبروا أمرهم جيدا في إخفاء المأسورين، ولو لم يكونوا قد تدبروا أمرهم لقتلوا المأسورين وتخلصوا من عبء الاحتفاظ بهم.
تحت الانتقام
كالعادة، ستقوم دولة الاحتلال بإجراءات قاسية وهمجية ضد الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدأت الحملة في الضفة الغربية بمداهمة منازل مدينة الخليل وبعض البلدات المجاورة لها مثل دورا وبني نعيم ويطا، وسيزداد التضييق مع الأيام، وسيشمل التدمير والتخريب في البيوت، كما قامت أيضا باعتقال المئات من عناصر وقيادات حركة حماس خاصة أعضاء المجلس التشريعي.
ومن المحتمل أن تعيد دولة الاحتلال تشغيل الحواجز على الطرق الرئيسية بين المدن وذلك للحد من حركة السكان ولتعقيد حياتهم اليومية، فهي عادة تلجأ إلى العقوبات الجماعية لتحدث شقا وهوة واسعة بين الجمهور الفلسطيني والمقاومة.
تحاول دولة الاحتلال دائما أن تنقل رسالة للناس مفادها أن المقاومة هي سبب معاناتهم، ولولا المقاومة لما قامت دولة الاحتلال بأعمالها القمعية، أي أنها تعمل على تحميل المقاومة المسؤولية وليس الاحتلال.
هناك من بين الفلسطينيين من يشتري هذا المنطق "المغلوط" والذي يحمّل صاحب الوطن الآثام لصالح مغتصب الوطن، وقد دأب البعض على الحرص على مقولة إن أمن الشعب الفلسطيني من أمن دولة الاحتلال، وإذا أراد الفلسطينيون أن يعيشوا بهدوء فعليهم احترام الأمن الصهيوني، وهذا ما تعنيه الأجهزة الأمنية عندما تقول إنها تدافع عن الأمن الفلسطيني.
أما بالنسبة لقطاع غزة فمن المحتمل أن تقوم دولة الاحتلال بتوسيع دائرة استهدافها لمواقع في القطاع، وسيتم قصف العديد من المواقع العسكرية التابعة للمقاومة الفلسطينية ومواقع ومؤسسات مدنية أيضا، ومن المحتمل أن تتوسع الدائرة لتشمل اغتيالات لقيادات سياسية.
وبالنسبة لدولة الاحتلال، العملية عبارة عن إهانة كبيرة لأجهزة الأمن الصهيونية وللجيش الصهيوني، ولقد أصيبت المخابرات الصهيونية بضربة قاسية أثبتت أنها ليست أخطبوطا ومن الممكن الالتفاف على كل إجراءاتها وأساليبها الأمنية.
لقد أصيبت هيبة الجيش الصهيوني، وستلقى دولة الاحتلال هزيمة كبيرة فيما إذا فشلت في العثور على الأسرى واضطرت في النهاية إلى القبول بتبادل الأسرى