ثقافة الشجب والاستنكار
تاريخ النشر : الأحد , 16 أغسطس 2009 - 11:30 صباحاً بتوقيت مدينة القدس
بقلم/ عبد الستار قاسم
يبدو أننا نحن العرب، على الأقل فيما يتعلق بالمستويات الرسمية العربية، قد ارتحنا تماما لشجب واستنكار كل اعتداء يقع علينا، وكل إهانة نتعرض لها؛ ولا يبدو أن في جعبتنا أفضل من ذلك. ويبدو أن هناك نموذجا استنكاريا جاهزا للتعبئة يتم إعداده على جناح السرعة لإخلاء السبيل والذمة والتنصل من المسؤولية. نحن نكتفي بوصف الأعداء والمعتدين بالمجرمين الحاقدين المتربصين، ومن ثم نعود إلى فراشنا لنرتاح من العمل المضني في نشر الاستنكار والصراخ بالشجب.
كان الاعتداء الأمريكي الأخير على سوريا مخزيا للأمة ككل، وجعل عربا كثيرين يظنون بأنفسهم أنهم مجرد عاهات تشوه وجه التاريخ الإنساني. وكما قال لي أحد المثقفين: "لقد شعرت بالخزي من نفسي وأنا أسمع الخبر عبر وسائل الإعلام." جنود أمريكيون يترجلون من طائراتهم السمتية في بلد عربي من المفروض أنه في حالة استنفار عسكري وأمني، يقتلون ويدمرون دون أن تُطلق عليهم رصاصة واحدة. كان من الممكن أن نلتمس العذر، أو للعربي ألا يدلّي بأذنيه إلى الأسفل لو أن جنوداً عرباً أطلقوا النار واشتبكوا، حتى بدون إيقاع إصابات بالجانب الأمريكي.
قالت جولدا مائير بعد حريق المسجد الأقصى عام 1969 إنها لم تستطع النوم ظناً منها أن العرب والمسلمين سيهبون ضد "إسرائيل" في اليوم التالي للحريق، لكن أعصابها ارتاحت عندما وجدت أن العرب لا يتقنون إلا الشجب والاستنكار. ويبدو ان الأمم قد استقر رأيها بالعرب بأنهم أمة مخنثين لا يدافعون عن أنفسهم، فأخذت تتطاول عليهم بدون رادع. أريتيريا احتلت جزرا يمنية، ولم يملك العرب سوى الاستنكار والشكوى، وقامت إثيوبيا التي يتضور أبناؤها جوعاً باحتلال الصومال ودون حتى استنكار عربي. الأمم تتطاول علينا، وتجرب عضلاتها بوجوهنا، ونحن كالأصنام الخاوية لا تلبث أن تنبطح مع أول لكمة.
واضح أن الاستنكار قد أصبح جزءاً من ثقافتنا العربية: المسئول لا يجد ما يتغطى به سوى الشجب والاستنكار والتوعد بأن المرة القادمة ستكون قاسية على المعتدين، والمواطن يتندر على المسئول ويهزأ به وبمواقفه الجبانة. نحن هكذا مرتاحون: المسئول يتنصل من المسؤولية، والمواطن يحافظ على بلادته. هذه ثقافة مقبولة عربياً الآن، وممارستها لا تثير التشنج، ولا تستفز الأعصاب، وأغلبنا بالهزيمة ينعم. ثقافة الشجب هي ثقافة هزيمة مستدخلة، وأصبحت الحياة صعبة بدونها. وليس غريباً في ظل هذه الثقافة أننا نحول دائماً هزائمنا إلى انتصار، ونحول النصر الذي حققه حزب الله إلى هزيمة. من الصعب جداً أن نجد في تاريخنا الحديث هزيمة غير مظفرة، وكل هزائمنا انتصارات.
في زخم الحياة، تمر أحداث وأفعال يستنكرها الإنسان وتستنكرها الدول، لكن العرب يشذون عن الاعتيادي في أنهم يستسلمون للعدوان والإهانة، ويكتفون بردود فعل لفظية أصبحت ممجوجة لدى الشارع العربي، ولا تعبر إلا عن العجز والضعف والخضوع للغير. فرنسا تستنكر أحياناً بعض الأمور، وكذلك اليابان وأفريقيا الوسطى وجواتيمالا، الخ، لكن الدول لا تبني مستقبلها ومستقبل أجيالها على مجرد التعبير عن الاستياء مما تتعرض له من إهانات وإذلال.
ثقافة الشجب والاستنكار العربية خطيرة جداً على الأجيال لأنها تترعرع في جو من الجبن والضعف والهوان، فتظن معه أن الحياة هي هكذا، ولا عيب في تصعير الخدود والإذعان للتصغير والاحتقار. أجيال من هذا النوع تفتقد عناصر تربوية هامة ذات علاقة بالشهامة والإباء والشجاعة والإعداد والاستعداد والنخوة والإصرار على الكرامة. إنها أجيال تحمل إرث الآباء المتصف بالتخاذل لتنقله بصورة أكثر تخاذلا للأجيال التي تلي.
الأنظمة العربية أنظمة لا يهمها إلا المحافظة على ذاتها، وهي مستعدة دائماً للمساومة على الأمة وعلى وطنها وعلى ثرواتها وشرفها من أجل أن تبقى في الحكم. مضت ستون سنة تقريباً على هذه الأنظمة وهي تنفق الأموال الطائلة على أجهزة الأمن من أجل ملاحقة المواطن، والاطمئنان إلى أنه عبارة عن عاهة لا يقوى على الصمود والتحدي. لقد سهرت هذه الأنظمة الليالي الطوال من أجل أن يبقى المواطن العربي ذليلاً تدوسه نعال أهل الشرق والغرب. ولا غرابة في النهاية أن لا غضب يتلبّس المواطن العربي عندما يرى أن الهزيمة تتم تغطيتها باستنكار أتفه من صاحبه.