بقلم : محمد نشبت
على صفحةِ الأرض هنا يُخطُ كل يومٍ حلم جديد، أمل جديد، وألم جديد. وتظل تتسربُ نسائم السماء من بين ثقوبِ الأبواب المؤصدة كل ذات مساء، مفتقةً الحكايا من تجاعيد وجنتي أصحابها، إذ أجد أن لا أحد يمكنه أن يقاوم كل هذا الظلام الذي وُجد فيه فجأة، وأجد أنه لا يمكننا إلا أن نربط حبل إنسانيتنا بحبله الممزق، كي يصل إلى النور، حتى وإن خسر الكثير، حتى وإن كلفنا ذلك المزيد من التضحية.
بينما تسمع عبرتِي حكايةَ هذا الإنسان المعاني بالدرجة الأولى، يردد قلبي إيييه، ما أسوأ العمرَ الذي لم يجد المرء نفسه فيه إلا على قيد العيش، منساقًا لقسوتِه وجبروته، مضطرًا له، ولكن مهما بلغ ذلك فيه ما بلغ، لا بد أن يأخذ القانون مجراه.
في زاويةٍ مظلمةٍ من سجن مركز العباس الواقع في غزة، يتجه إليّ السجانُ طالبًا مني الاستعداد لأنتقل لمثواي الأخير خلال نصف ساعة، تكسّر ابتسامتي حالة التوتر التي تسود الغرفة، ثم أطلب منه ماءً للوضوء، وسجادة للصلاة، أنهي صلاتي وأدعو الله بقلب واثق أن رحمته وسعت كل شيء.
أخطو خطوتي الأولى تجاه الموت نادمًا على كل لحظة اقترفتها بذنب دام ثمانيةَ عشر عامًا، أميل الى سجاني مستوضحًا عن الحكم إن كان سينفذ رميًا بالرصاص أم شنقًا؟ فيرميني السجان بنظرة تشي بأن كل طرق الموت متشابهة، فلم القلق!
تبدأ الحكاية عندما أعلنت وزارة الداخلية بغزة منتصف عام 2012 فتح باب التوبة للمرتبطين والمتخابرين مع إسرائيل، أجل فأنا متخابر. عملي داخل الأراضي المحتلة ومروري المتكرر من خلال معبر إيرز كان له الدور في أن يقع على الاختيار لأكون متخابرًا، خاصة وأني على علاقة جيدة ببعض الجنود إضافة الى إيماني العميق بمبدأ الشراكة لا القتال.
بدأ الأمر بمدادهم ببعض المعلومات، التي كنت أعتقد انها بسيطة ولن تؤثر، كعدد المحال التي تبقى مفتوحة بعد الثانية عشر ليلًا، إضافة الى عدد المصلين في فترات محدده، وبسبب تلك العلاقات كان من السهل عليّ مقابلة أي ضابط كبير، وبناءً على ذلك قد فٌتح لي المجال لإجراء أي عملية سفرٍ، أو استخراج التصاريح للعمل في ذات اليوم. وذات مساء اتجهت لحضور حفل عيد ميلاد لأحد الجنود، اجتمع معي أحد الضباط الكبار، وينادى بأبي فؤاد، عارضًا عليّ العمل معهم براتب مجز.
في البداية رفضتُ رفضًا قاطعًا، واحتد النقاش بيننا، ليعرض عليّ مجموعةً من الصور قد التقطت لي في مكاتبهم، والجنود، الذين كنت التقي بهم، إضافةً لتسجيلات هاتفيةٍ دارت بيني وبينهم، حينما كنت أمدهم بالمعلومات، لم يكن أمامي سوى المضي قدمًا في مخططهِم خوفًا من الفضيحة، خاصةً وأنه في تلك الفترة لم يكن هناك من نثق به لنخبره بتورطنا في سلك العمالة.
بدأت صفحات جديدة من حياتي، كنت أسيرًا فيها لشهوةِ المال، كنت أحرص كل الحرص على إرضاء المسؤولين عن تجنيدي، أدخلت للقطاع الكثير من أجهزة المراقبة وتتبعت نشاط بعض المقاومين، وإعطاء علاماتٍ للاستهداف، وكنت أسعى دائمًا للقاء ضابط المنطقة الجنوبية في مستوطنة (غوش قطيف).
توسع العمل وصرت مسؤولًا عن عدد من الأفراد، أمدهم بالمال والأجهزة بل كنت سبابًا في اعتقال بعض أفراد المقاومة، بنصب كمين لهم، أو مراقبتهم عند مرورهم على الحواجز الإسرائيلية، التي كانت منتشرة على مداخل مدن قطاع غزة.
بعد سيطرة حماس على القطاع بات العمل صعبًا، ولم يكن التحركُ سهلًا وصارت خطواتي محسوبةً. خطأ بسيطٌ يكشف أمري، ولقد أخبرت مرارًا وتكرارًا الضابط المسؤول عني، أن العمل لابدّ أن يكون أقل، واللقاءات متباعدة وإلا وقع بالمحظور، وحينها لن تنفعني دولتكم!
ذات يوم كنت أجالس أبنائي كأي أبٍ أحثهم على طلب العلم والتمسك بالوطن والحذر من شرك الاحتلال “نعم كنت أكذب على نفسي ” وإذ بابني البكر يطلب مني التحدث بموضوع خاص; على انفراد قلت في نفسي ربما يريد الزواج فهو في سن تأهله لذلك، توجهنا لغرفته وقد كنت مبتسمًا وقبل أن نتحدث قلت له يوم أنتظره منذ زمن، فأنت ترغب بالزواج أليس كذلك؟
نظر في وجهي لم تطرف عينه إذ قال بحزم لقد خطبت إحداهن، وسأتوجه خلال ساعات لدفع مهرها، حاولت مقاطعته لمعرفتها! لكنه لم يسمح لي ولم يسمع مني، وأكمل مهرها غالٍ وليس بمقدورك أن تدفعه، سأنفذ عملية نثخن فيها الجيش الإسرائيلي، وأتمنى منك ألا تبلّغ عنّي.
كاد يغمى عليّ من هول الصدمة، لم تتمالك قدماي حملي، فوقعت على الأرض، لم أستطع أن أتحدث، انحبست العبرات في عيني كاد القلب أن يتجمد. ابني يعرف أني متخابر، ولم يبلغ عني! حاولت أن أتمالك نفسي لأحدثه لكن بأي وجه! ثم إنه خرج.
ساعات مرت من الترقب والخوف حبست نفسي في غرفتي، لم أقابل أحدًا، ولم أسمح لأحد بمقاطعتي تسمرت أمام التلفاز، واشعلت الراديو، أتنقل من محطةٍ إلى أخرى، مضى كامل اليوم دون معلومات تذكر، حالةٌ من الإرهاق النفسي والعصبي مرت عليّ قبل أن تخبرني زوجتي أن هناك أصدقاء لابني عادل يرغبون في مقابلتي لأمر عاجل، أسير إليهم بخطى مثقلة، وكأني اتجه لحتفي اقترب مني أحدهم بشكل مباغت هامسًا في أذني ما لن أنساه ما حييت، بكيت بحرقة كطفل بين ذراعيه، ودعني قائلًا الطريق قريب فلا تتأخر.
كمجنون دخلت البيت، اغتسلت وتطهرت، وأقبلت على الصلاة أتذوقها لأول مرة بقلب خاشع، ودعت أهل بيتي واتجهت مع أصدقاء ولدي لمركز العباس، سلمت نفسي وأدليت بكامل الاعترافات التي تدينني، وسلمت الأجهزة وكل من له صلة بي، تم الأمر بسرية تامة كما وعدت الداخلية.
ثلاثة أشهر اجتمع بنا الكثير من الوعاظ، ميسرين لنا باب التوبة، وأن الله لا يرد أحدًا مهما بلغت ذنوبه وآثامه، وخلال هذه الشهور كأني ولدت مسلمًا من جديد، كثير الاستغفار والصلاة والصوم، وقد أنزل الله سكينته على قلبي وذقت حلاوة في التوبة ما بعدها حلاوة.
وصلتُ منصة الإعدام وقد هيأت لاستقبالي وكأنها تخاطبني: هنا القصاص، ولا قصاص بعده. يقترب مني المرشد الديني قبل تنفيذ حكم الإعدام شنقًا; لسؤالي عن حاجة؟ أومئ له أن لا، فيوصيني بالشهادتين، ثم قرأ علي قوله تعالى ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ “
يغطى رأسي بقطعة قماش سوداء، يحكم منفذ الإعدام الحبل حول رقبتي أطلق عبرتين ندمًا على ما فرطت في جنب الله، والوطن، يأمر الضابط الأعلى بتنفيذ الحكم، أتأرجح لتفضى روحي الى باريها، ارتفع بصري لأعلى سمعت صوتا نديا كأنه يخاطبني بقوله تعالى ” يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي “.
شبكة القدس الإخبارية