لم يكن الشعب الفلسطيني يتيما، متروكا لقدره في مواجهة عدوه، عدو الأمة، “إسرائيل”، كما يتبدّى هذه الأيام وهو لا يجد من أسباب الصمود والمقاومة إلا الحجر وبعض السكاكين الصغيرة التي تسهل تخبئتها، في انتظار التماس مع “الهدف”.
وهذه ظاهرة فريدة في بابها، تدلّ على شجاعة هؤلاء الفتية الذين يفتقرون إلى السلاح الناري فيقتحمون “أهدافهم” مباشرة وهم يعرفون يقيناً أن خطر اعتقالهم مؤكد إذا ما نجوا من القتل برصاص جيش العدو.
هذه الظاهرة طبيعية إذا ما أجلنا النظر في المنطقة العربية عموماً وفي محيط فلسطين مباشرة: فسيناء المصرية هي بحكم الأرض المحتلة برغم جلاء العدو الإسرائيلي، نظرياً، عنها… فالجيش المصري ممنوع من الانتشار فيها إلا بأعداد محدودة وبأسلحة فردية محدّدة، وإن سمح له بتعزيزها ببعض الآليات العسكرية لزوم مطاردة عصابات مهرّبي السلاح وتجار المخدرات.
أما الحدود السورية فيحكمها القرار الدولي بوقف إطلاق النار الذي صدر في أعقاب حرب تشرين (6 تشرين الأول 1973) التي قصرت عن تحقيق أهدافها نتيجة تفرد الرئيس المصري أنور السادات بقرار وقف النار مع العدو الإسرائيلي والذهاب إلى “التسوية” بل الصلح المنفرد متخلياً عن شريكه بالدم، الجيش السوري، الذي واجه جيش العدو الإسرائيلي بطاقته القصوى بعدما اطمأنت قيادته إلى صمت الجبهة المصرية، فدفعت به بأسلحته كافة إلى الجبهة السورية… وهكذا اضطر النظام السوري إلى الموافقة على قرار أممي بوقف النار، بعدما عجز عن الحفاظ على ما كان قد استعاده من الأرض السورية المحتلة في الجولان.
كذلك فإن الحدود اللبنانية محكومة بالقرار 1701 الذي صدر في أعقاب حرب تموز المجيدة التي حقق فيها مجاهدو المقاومة، معززين بصمود الشعب اللبناني، نصراً مؤزراً، فردّوا العدو الإسرائيلي إلى داخل الأرض الفلسطينية المحتلة خائباً بعد تكبيده خسائر فادحة.
على هذا فقد تمّ عزل فلسطين أو ما تبقى منها، بعد اتفاق أوسلو الذي وقعته السلطة مع العدو الإسرائيلي في 13/9/1993، والذي تزامنت مع توقيعه لبنانياً تظاهرة احتجاج قمعتها السلطة وسقط فيها عدد من الضحايا، شهداء لفلسطين واستنكاراً لاتفاق رأته المقاومة في لبنان مجحفاً بحق الشعب الفلسطيني… ومن ثمّ مسيئاً إلى جهودها لتحرير أرضنا بدماء الشهداء.
ومع أن حدود الكيان الإسرائيلي مع الأردن ظلت خارج ميدان حرب تشرين 1973، وبالتالي لم تشهد أية معارك، التزاماً بقرار غير معلن بمهادنة العدو الإسرائيلي، فإنها قد خرجت من حومة الصراع جميعاً نتيجة التسوية التي تمّ عقد الاتفاق حول شروطها بداية في حديقة البيت الأبيض في واشنطن ثمّ في وادي عربة بالأردن في 26/10/1974.
عادت فلسطين إلى قوقعة الصمت، بعدما اعتبر أهل النظام العربي، أنهم قد أدّوا “واجبهم” تجاهها، وأنه قد آن الأوان لأن تتولّى “السلطة” فيها إنجاز مهام التحرير، مع وعيهم بأن “السلطة” أعجز من أن تستطيع مواجهة العدو الإسرائيلي مع كل قوى الدعم الدولي التي تسانده.. في غياب أي إسناد عربي جدّي، لا سيما الآن وقد خرجت الدول العربية من الميدان، نهائياً، بعدما كانت قد خرجت منه تدريجياً قبل ذلك بكثير، ومع اللحظة التي وافقت فيها منظمة التحرير على اعتماد أسلوب التفاوض بدلاً من الكفاح المسلح، وذلك عشية اللقاءات التي نظمها الأميركيون في مدريد “لتسوية النزاع العربي الإسرائيلي”. خصوصاً أن رحيل القائد ياسر عرفات في الظروف التي ما زال يلفها الغموض حتى الآن، قد تزامن مع الشروع في تطبيق اتفاق أوسلو، الذي رأى فيه إنجازاً ينقصه الاكتمال ولكن يمكن القبول به كخطوة أولى واسعة نحو تحقيق مشروع الدولتين على أرض فلسطين التاريخية.
مع انطفاء “أبو عمار” وتولي “أبو مازن” رئاسة السلطة، توالت التراجعات، فعدل العدو الإسرائيلي في حدود “الكيان” الذي سيكون للفلسطينيين، وأقام في قلبه سلسلة من المستوطنات كجزر مسلّحة تفصل بين القرى والبلدات الفلسطينية مما يسهل على إسرائيل حصارها ثمّ ابتلاعها، خصوصاً أنه شرع ببناء جدار الفصل العنصري ليقسم المقسّم مستولياً بذلك على مزيد من الأراضي التي يفترض أن تكون من حق السلطة.
بالمقابل، استقبل أهل النظام العربي “أبو مازن” باعتباره “مدنياً” مثلهم لا يدخل على الاجتماعات بوهج الثائر ومسدس الكفاح المسلح والكوفيّة التي تذكّر بتاريخ النضال الفلسطيني في مواجهة المشروع ثمّ الكيان الإسرائيلي، بل بربطة عنق ممتازة من أغلى الماركات.
ولقد توالت التراجعات بعد ذلك، على الأرض كما في الروح المعنوية لأولئك الذين انتقلوا من الكفاح المسلح إلى التسوية السياسية المجحفة بحق الدماء التي بذلها شهداء فلسطين (والعرب) من أجل التحرير… وفي الجانب الآخر اندفعت “إسرائيل” تستورد آلافاً مؤلفة من المستوطنين، كان الروس الأعظم عدداً بينهم (وفيهم نسبة كبيرة من غير اليهود، ولكنهم “تهوّدوا” – سياسياً على الأقل – ليكونوا مستوطنين يبنون منازل لهم على أرض ليست لهم).
وبقدر ما تراخى المناضلون القدامى وقد غدوا الآن “سلطة”، فإن المستوطنين الجدد كانوا أشرس في مواجهة حركة الاعتراض الفلسطيني، فالأرض للأقوى بسلاحه وليس بحقه التاريخي فيها.. وهكذا تكررت الفصول الأولى من المأساة الفلسطينية: الأقوى بسلاحه يأخذ الأرض عنوة ويطرد منها صاحبَها، زارعها وراعيها وبانيها عبر التاريخ.
هامش: أستذكر للمناسبة، حواراً قصيراً دار بين بعض العائدين من أهل السلطة إلى الأرض المقدسة وبيني، في إحدى عواصم الصفقات العربية مع العدو الإسرائيلي. قال لي بعد أن تأمّلني ملياً: ألم تعرفني؟! واعتذرت بأن نظارتين عظيمتَي الحجم وسوداويتي الزجاج تغطيان معظم وجهه وتُخفيان ملامحه، فنزعهما وهو يقول: “أنا فلان، كنت بين مرافقي القائد الراحل أبو عمار..”. واعتذرت بلطـف، قبل أن أسأله عن الوضع الداخلي الآن.. ولقد رد بنبرة غاضبة: الآن نحن السلطة، وكل من يعترض أو يتصدّى لنا سوف نسحقه سحقاً. لقد حرّرناها! خلاص، ولم تعُد لنا حاجة إلى السلاح.
لم يكن مثل هذا الكلام بل المنطق مطمئناً، لكن الوقائع التي كنا نسمع عنها أو نعرف بها مباشرة من قادمين من أهل الضفة، خصوصاً، أو غزة ما كانت لتريحنا. لقد استبدل “الثوار المتقاعدون” العدو الحقيقي، أي إسرائيل، بأهلهم. جعلوا أنفسهم شرطة على أهلهم، وفي ذلك ما يخدم الاحتلال، وما يشوّه السلطة ويجعلها ديكتاتورية تقاتل الذين ما زالوا يؤمنون بأن “التسوية” التي قبلت بها منظمة التحرير مضطرة، وفي ظروف قاسية عليها، هي خطوة أولى أو مرحلة على الطريق الطويل إلى التحرير، الذي ارتأت القيادة الفلسطينية في لحظة ما، وفي ظل انعدام التكافؤ في ميزان القوى، أن تقبل بحلّ جزئي لا يتناسب مع شعارات الثورة وتضحيات الشهداء، ولكنه “الممكن” في تلك اللحظة، وليس نهاية المطاف بأي حال من الأحوال.
انضمّت “السلطة الفلسطينية” إلى نادي الحكام العرب، ولازمت ربطة العنق “السيد الرئيس” “محمود عباس”، واختفت الكوفية – الرمز – كما اختفى مسدس عرفات الذي كان يرمز إلى انتهاجه الكفاح المسلح طريقاً إلى التحرير.
فرض الأمر الواقع نفسه على الفلسطينيين: حل ناقص لا يلبي الحد الأدنى من مطالبهم، والسلطة أشبه بأسير حرب لدى قوات الاحتلال الإسرائيلي، وقد أعطيت الأوامر بالانصراف للمجاهدين الذين تحوّلت النسبة الكبرى منهم إلى “شرطة” سرعان ما جعلها “الأمر الواقع” “قوة قمع” إضافية للشعب الفلسطيني تعيده إلى قوقعة اليأس الذي كان قد افترض أنه حطّمها بدمائه ومضى قدماً على طريق التحرير.
… ثمّ وعلى غير توقع انفجر غضب الشعب الفلسطيني، مرة أخرى، رافضاً استمرار الخضوع للأمر الواقع الذي لا يمكن قبوله.. فالسلطة مفلسـة سياسياً قبل الإفلاس المالي وبعده، وهي لا تجد أمامها إلا الهرب إلى معارك ديبلوماسية لتقبل عضويتها في بعض المؤسسات الدولية مستندة إلى واقعة “تسليم” الأمم المتحدة برفع العلم الفلسطيني على أحد سواري الأمم المتحدة (حوالي المئتين..). وعلى أهمية هذه الواقعة الرمزية، فإنها لا تبدل شيئاً من الأمر الواقع الذي يعامل فيه الإسرائيلي السلطة وكأنها رهينته، فيضيّق عليها أكثر فأكثر في “الداخل”.. تاركاً لقيادتها أن تمضي معظم وقتها في الخارج، تجول بين العواصم العربية والصديقة، لا تطلب ما لا تملك أن تعطيه تلك العواصم، في انتظار تبدّل لا يبدو أنه سيحصل في الموقف الأميركي، ناهيك بالموقف الإسرائيلي الذي يزداد تشدداً وعنفاً في الرفض.
وهكذا ابتدع الفتية الفلسطينيون أسلوبهم الجديد في المواجهة، لا سيما بعد مشاهد الإذلال التي تعرّض لها المصلون في المسجد الأقصى، ثمّ إقدام العدو الإسرائيلي على محاصرة هذا “الرمز” الذي له دلالاته النضالية، فضلاً عن أهميته التاريخية وقداسته الثابتة في نص قاطع الوضوح في القرآن الكريم.
عاد المسجد الأقصى ليشكل الرمز المقدس للنضال من أجل التحرير، ليس فقط لموقعه ذي الكرامة الخاصة دينياً، بل لكونه يؤكد فلسطينية فلسطين بمقدساتها جميعاً، من كنيسة القيامة إلى درب الآلام فإلى المسجد الأقصى (الذي باركنا حوله ).
سرعان ما تمدّدت المواجهة لتشمل القدس ثمّ الضفة فقراها، قبل أن يتحرك الفتية في غزة (التي ما تزال تحمل جراح الحرب الإسرائيلية الرابعة عليها)…
ثمّ كانت المفاجأة: وصلت الانتفاضة إلى “أراضي 1948” فتحرّك شبابها ونزلوا إلى ميدان المواجهة مع جيش الاحتلال.
اكتسب السكين سمات السلاح المقاوم الذي يشهد على شجاعة هؤلاء الفتية الممتلئين حماسة، المشبَعين بالإيمان بقداسة أرضهم، والمستعدّين لافتداء كرامتها بدمائهم..
وها هي انتفاضة الفتية الميامين تدخل شهرها الثالث، ويكاد لا يخلو يوم من مواجهة أو أكثر، بين السكاكين والجيش الذي لا يُقهر.
أما “العرب” فغائبون، أو مغيَّبون في قلب جراحهم المفتوحة، بامتداد الأرض بين سوريا واليمن، وبين سيناء المصرية وتونس التي تهتزّ صيغة التوافق بين قواها السياسية مروراً بليبيا التي فقدت رأسها ووحدة شعبها وغرقت في حرب أهلية لا تُعرف لها نهاية واضحة.
مرة أخرى يصرخ الفلسطيني: يا لوحدَنا..
ومع الأسف، فإنه لا يلقى جواباً، برغم أنه يكتب رفضه واقع الاحتلال بدمه، ولا يجد أكثر من سكين في مواجهة عدوه، بينما دول النفط العربية تنفق المليارات على شراء أسلحة لن تستخدمها إلا ضد خصومها الذين باتت تصنّفهم أعداء، كما في سوريا بداية، ثمّ اليمن التي تكاد تلتهمها النار السعودية المعزّزة ببعض الإمدادات الخليجية لسبب غير مفهوم.. مع أن هذا الشعب اليمني صاحب فضل لا يُنكره مكابر على دول الخليج (الفارسي)عامة والسعودية خاصة.
والسكاكين مرحلة جديدة في عمر هذه الثورة الفلسطينية التي لن تتوقف، مهما اشتدت عليها الظروف، إلا بتحقيق هذا الشعب البطل الحد الأدنى من حقه في وطنه الذي سيبقى دائماً وطنه: فلسطين.
السفير اللبنانية