حينما شرعتُ في كتابة هذه المقالة، كانت وصية الشهيدة رشا عويصي قد انتشرت أخيرًا، تتحدث فيها عن وعيها الكامل بالطريق الذي اختارته، دفاعًا عن وطنها وعن الشباب والبنات.. قالت الشهيدة بأنها لم تعد تحتمل جرائم الاحتلال، فحملت سكينها وسعت إلى ما رأته واجبها.
قضت رشا العويصي شهيدة بعد 37 يومًا على شهادة مهند الحلبي، لتثبت ما كانت قد أدركته معرفة مهند الخفية، وأحاطت به بصيرته العزيزة، وتعرّف إليه من قبل علمه الفذ، حينما كتب "حسب ما أرى فإن الانتفاضة الثالثة قد انطلقت". لم يكن مهند يحاول أن يمارس دور المحلل السياسي، ولكنه كان يقرر إرادته التي دفعت الهبة الشعبية حتى أوصلتها إلى هذا اليوم حتى تجاوزت كل تحليل، واستعصت بسماتها الخاصة ونمطها في الاستمرار على كل أدوات التفسير.
لكن شخصًا آخر، يعرّف نفسه، أو يعرّفه مريدوه بالقول: "هو الشَّيخُ العلّامةُ البحَّاثةُ المحدِّثُ المحقِّقُ الأُصوليُّ المُدَقِّقُ أبو الحارث عليُّ بنُ حسنِ بنِ عليِّ بنِ عبدِ الحميدِ الحلبيُّ السَّلفيُّ الأَثريُّ؛ الفلسطينيُّ اليافيُّ (من يافا) أصلاً ومنبتاً، الحلبيُّ نسبةً، الأردنيُّ مهاجراً, صاحب التَّصانيف العديدة، والتَّواليف السَّديدة, والتَّحقيقات العلميَّة الفريدة"؛ له رأي آخر.
يرى علي الحلبي (الشيخ العلامة البحاثة المحدث المحقق الأصولي المدقق)، بأن "اليهودي" في فلسطين- أي المحتل- حتى لو كان منتميًا إلى "جنس الملاعين"، فإنه صاحب فضل ومنٍّ وكرم على الفلسطينيين، فهو الذي يمنحهم الكهرباء والماء والمال، ولا يعتدي إلا إذا اعتدي عليه، ملتزمًا، أي "الصهيوني المحتل"، بمبدأ وخلق أملاه عليه خبثه وكفره (هكذا قال المحقق المدقق).. ثم بعد أن قرر ذلك، وأسند معرفته إلى ما يسمع من "الإخوة في فلسطين"، مؤكدًا أن هذه هي الحقيقة، انتفخ وانتشى، كما هو منتفخ في ذلك التعريف، وأكد بكامل الثقة والاعتزاز العلمي بأن "النظر العاطفي شيء والنظر العلمي شيء آخر".
المسافة التي تفصل مهند الحلبي عن علي الحبي، تخلو من العاطفة إذن، بالرغم من نسبتهما الواحدة، وأصولهما البعيدة الواحدة غالبًا، فكلاهما هُجّرت عائلته من يافا (هربت بحسب علي الحلبي)، ويبدو أن جذرًا ما لهذه العوائل اليافوية يرجع إلى حلب الشهباء، إلى منبع سليمان الحلبي، قاتل كليبر في القاهرة، ولكن ما يفصل مهند الحلبي عن علي الحلبي هو الوعي الذي تحدثت عنه رشا العويصي، والفعل الذي اختاره مهند الحلبي، طريقًا للنهوض بالواجب، وشق الطريق إلى يافا. ولكن علي الحلبي، وكما في توضيح لاحق له، ينتظر اللحظات الأخيرة قبيل قيام الساعة لأجل قتال الاحتلال!
يسند علي الحلبي، الذي لم يعش في فلسطين ولم يعاين الحقيقة بنفسه كما قال، معرفته إلى "الإخوة في فلسطين"، أي إلى مريديه في فلسطين، ثم يقرر أن هذه هي الحقيقة. وبهذا فإن مهند الحلبي ليس من إخوة علي الحلبي الفلسطينيين، لأنه، أي مهند، رأى مالم يره علي الحلبي وإخوانه في فلسطين، على الأقل رأي سحل جنود الصهاينة لأخواتنا المرابطات في المسجد الأقصى، وتساءل: "هل ترضاه لأمك أو لأختك أو لزوجك؟!"، وهو سؤال بالتأكيد لا يلامس نخوة معطوبة، ولا عينًا مظلمة.
بالنسبة لمهند الحلبي فإن محض وجود الكيان الصهيوني حالة عدوانية، وهو بالإضافة إلى ذلك يرى ما يراه كل فلسطيني، (باستثناء إخوة علي الحلبي)، من ممارسات العدوان اليومية، باستمرار التوسع الاستيطاني، وسلب الأرض التي فيها الماء والكهرباء والمال، وإخضاع الفلسطينيين إلى أدوات الضبط والسيطرة الباطشة، والتدنيس المكثف للمسجد الأقصى المبارك والسعي إلى تقسيمه، ونقض كل العهود والمواثيق التي أبرموها مع "أولياء الأمر العرب والفلسطينيين". بيد أن علي الحلبي و(إخوانه في فلسطين) لا يرون إلا الكهرباء والماء والمال الذي يمنُّ به من اعتبرهم " اليهود غير المعتدين" على الفلسطينيين!
يتحدث علي الحلبي، وكأن المحتلين الغاصبين المعتدين، نبعوا من هذه الأرض ثم أنتجوا الكهرباء والماء والمال من العدم، ومنحوها للفلسطينيين إحسانًا وتفضلاً، ثم قرر الفلسطينيون الغدر بتلك الحملان الوديعة. لنكون أمام حالة مركبة من البؤس والسفه والجهل والغرور وتشوه الوعي والفطرة، تزداد بؤسًا بأتباعها الذين يستمدون معرفتهم من هذه الجثّة المعطلة بالجهل، ثم تزداد بؤسًا حينما يكون لها "إخوة في فلسطين" يبدو المريخ أقرب إليهم من ظروف شعبهم، وهي بائسة أصلاً إذ تنسب جهلها للسلف رضوان الله تعالى عليهم، وبائسة وهي تكشف عن جهلها حتى بالأثر والنص الذي تنسب نفسها إليه، وتدعي أنه سبيلها إلى فقه الواقع، وإذا بها لا تدري عن قوله تعالى: "كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ". ولولا هذا البؤس المركب، وصدور هذه الشخصية عن حالة في الوسط السلفي، لما بذل المرء عناء في مناقشة هذا الهراء.
لكن وعي مهند الحلبي الفطري، وتحقيقه وتدقيقه، بالإضافة إلى سلامته النفسية، وسلامة السمات الفطرية في الإنسان والمسلم السوي، استحال إلى نموذج القيام بالواجب الذي يحيي به الله أمة، مستجيبًا لأمر الله، ولدوافع الفطرة النقية، "يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"، وإذا كان مهند كما نرجو وندعو له، حي عند ربه يرزق، فقد أحيى من خلفه شعبًا، بينما لا يخلو الأمر أبدًا من طرف مقابل مَثَلُه "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا".
ساري عرابي