تاريخ النشر : 2015-09-23
يوم عرفة
مما امتازت به عشر ذي الحجة وفضلت به على غيرها من أيام العام أن فيها يوم عرفة ، وهو يوم من أعظم أيام الله ، تغفر فيه الزلاّت ، وتجاب فيه الدعوات ، ويباهي الله بعباده أهل السماوات .
ويوم عرفة يوم إكمال الدين وإتمام النعمة على المسلمين ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال أي آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } ( المائدة : 3) ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم الجمعة .
وهو من مفاخر المسلمين وأعيادهم ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : ( يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب) رواه الترمذي .
وهو يوم مغفرة الذنوب ، والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف ، فما أجله من يوم ، وما أعظمه من موقف قال عليه الصلاة والسلام : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء ) رواه مسلم ، وقال في حديث آخر : ( إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء ، فيقول لهم انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثاً غبراً ) رواه أحمد .
جعله الله كالمقدمة ليوم النحر ففيه يكون الوقوف والتضرع ، والتوبة والمغفرة ، وفي يوم النحر تكون الوفادة والزيارة ، ولذا سمي طوافه طواف الزيارة ، فبعد أن يَطْهُر الحجاج من ذنوبهم عشية عرفة ، يأذن لهم ربهم ومولاهم يوم النحر في زيارته والدخول إلى بيته ، فيوم عرفة كالطهور بين يدي يوم النحر ، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال : أنصت الناس ثم قال لهم : ( إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا فوهب مسيئكم لمحسنكم وأعطي محسنكم ما سأل ، ادفعوا باسم الله ) رواه ابن ماجة وصححه بعض العلماء.
فعلى كل من يطمع في العتق من النار ، ومغفرة ذنوبه في هذا اليوم العظيم أن يحافظ على الأسباب التي يرجى بها العتق والمغفرة وأول هذه الأسباب :
حفظ الجوارح عن المحرمات فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان فلان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عرفة ، فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن ، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجهه بيده من خلفه مرارا ، وجعل الفتى يلاحظ إليهن ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ابن أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غُفِر له ) رواه أحمد وفي إسناده مقال.
ومنها الصيام قال - صلى الله عليه وسلم -: ( صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله ، والسنة التي بعده ) رواه مسلم .
وصيام يوم عرفة إنما يشرع لغير الحاج أما الحاج فلا يشرع له ذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد شرب - صلى الله عليه وسلم - بعرفة والناس ينظرون إليه ، وليتقوى الحاج على الذكر والدعاء عشية عرفة .
ومن أسباب الرحمة والمغفرة في يوم عرفة الإكثار من الذكر والدعاء ، وخصوصاً شهادة التوحيد فإنها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله تعالى في هذا اليوم ،قال - صلى الله عليه وسلم - : ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة ، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) رواه الترمذي .
فعلى الحاج أن يكثر من الدعاء بالمغفرة والعتق من النار في ذلك الموقف ، فإنه من أرجى مواطن الإجابة ، وعليه أن يلتزم بآداب الدعاء وأن يستقبل القبلة في دعائه رافعاً يديه متضرعاً مبتهلاً مقتدياً بأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، الذي ما إن فرغ من الصلاة حتى أتى الموقف ، فوقف عند الصخرات ، واستقبل القبلة ، وأخذ في الدعاء والتضرع والابتهال إلى أن غربت الشمس .
ولتحذر أخي الحاج من الذنوب والمعاصي التي تحول بينك وبين المغفرة كالكبر والاختيال والإصرار على الكبائر ، وادخل على مولاك من باب الذل والانكسار والإخبات حتى يقبلك ، فإنه خير مأمول وأكرم مسؤول سبحانه وتعالى .
أخي الحاج : موقف عرفة موقف مهيب عظيم تنوعت فيه مشاعر الصالحين ، وتعددت فيه مواقفهم ، فمنهم من غلب عليه الخوف والحياء ، كما فعل مطرف بن عبد الله بن الشخير و بكر المزني حين وقفا بعرفة فقال أحدهما : " اللهم لا ترد أهل الموقف من أجلي " ، وقال الآخر : " ما أشرفه من موقف وأرجاه لولا أني فيه " ، ووقف الفضيل بن عياض بعرفة والناس يدعون ، وهو يبكي بكاء الثكلى قد حال البكاء بينه وبين الدعاء ، فلما كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء وقال : " واسوأتاه منك وإن عفوت " .
ومنهم من تعلق بأذيال الرجاء طمعاً في رحمة الله وكرمه يقول ابن المبارك : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة ، وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال : الذي يظن أن الله لا يغفر له ، ونظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً يعني سدس درهم ، أكان يردهم ؟ قالوا : لا ، قال : والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق .
فينبغي عليك أخي الحاج أن تجمع في هذا الموقف العظيم بين الخوف والرجاء ، فتخاف من عقاب الله وعذابه ، وترجو مغفرته وثوابه .
ولتتذكر بوقوفك في عرفات يوماً تشيب لهوله الولدان ، يوم يقف العباد بين يدي الله حفاة عراة غرلاً لتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ، فاحرص على ما ينجيك من هول ذلك الموقف ، واستعد له ما دمت في زمن الإمكان ، نسأل الله أن يجعلنا وإياك من المقبولين في هذا اليوم العظيم وأن يعتق رقابنا من النار بمنه وكرمه .