من المعلوم أن الإنسان اجتماعي بطبعه، يحب الاجتماع والألفة، ويكره الاختلاف والفرقة، لذلك فهو يجالس أفراد مجتمعه، وتدور في تلك المجالس الأحاديث المختلفة، وتختلف المجالس والجلساء، فجليس يحب الثرثرة وكثرة الكلام، وآخر يحب الصمت وقلة الكلام؛ وجليس يحب كثرة الكلام حري بأن يفشي الأسرار ويذيعها، ولا يحفظها.
إن الأسرار لها أهمية كبيرة في حياة الأمم، فهي من أعظم أسباب النجاح، وأدوم لأحوال الصلاح.
ومن أجل ذلك فقد كانت رعاية الإسلام للمحافظة على الأسرار يستهدف من ورائها تكوين المجتمع الإسلامي، ووضع التشريعات الضابطة لحماية العلاقات وتنميتها أمر لازم لدوام الحياة الاجتماعية وتقدمها من الناحية المعنوية.
ولو أُهملت المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، وسُمح للخيانة وفشو الأسرار بالانتشار؛ لزالت المعاني الإنسانية، كالأمانة وكتمان الأسرار، من حياة الناس، وتحولت الحياة الاجتماعية إلى جحيم لا يطاق.
يقول الماوردي -رحمه الله-: "إن من الأسرار ما لا يُستغنى فيه عن مطالعة صديق مساهم، واستشارة ناصح مسالم، فليختر لسرّه أميناً، إن لم يجد إلى كتمه سبيلاً، وليتحر المرء في اختيار مَنْ يأتمنه عليه، ويستودعه إياه، فليس كل مَنْ كان أميناً على الأموال؛ كان على الأسرار مؤتمناً، والعفة عن الأموال أيسر من العفة عن إذاعة الأسرار؛ لأن الإنسان قد يذيع سر نفسه، بمبادرة لسانه، وسقط كلامه، ويشح باليسير من ماله، حفظاً لَهُ، وضناً به، ولا يرى ما أضاع من سرّه كبيراً، في جنب ما حفظه من يسير ماله، مع عِظَم الضرر الداخل عليه، فمن أجل ذلك كان أمناء الأسرار أشد تعذراً، وأقل وجوداً من أمناء الأموال، وكان حفظ المال أيسر من كتم الأسرار؛ لأن أحراز الأموال منيعة، وأحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق، ويشيعها كلام سابق".
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام إلى أن المحافظة على الأسرار مشروطة بأن لا تؤثر في حق الله تعالى أو حق المسلمين، وإلا عُدَّ من الخيانة لحق الله تعالى أو حق المسلمين، وليس حفظ الأسرار هنا من الأمانة.
حفظ الأسرار أمانة عظيمة
إنَّ حفظ الأسرار وكتمانها أمانة عظيمة، يجب الوفاء بها، وقد حثَّنا الشرع عليها، وحذَّرنا من فشو الأسرار والتفريط فيها، قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً سورة الإسراء(34 )، وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) سورة المعارج(32). ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان).
وعلى من أُودِعَ سراً أن يحافظَ عليه ولا يفشيه أبداً، وإلا أصبح خائناً، وهي صفة مشابهة للمنافق الذي إذا ائتمن على شيء خانه، كما في حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أربعٌ من كُنَّ فيه كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، ومَنْ كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النِّفَاقِ حتى يَدَعَهَا : إِذَا ائْتُمِنَ خَانَ، وإِذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإِذَا عَاهَدَ غَدَر، وإِذَا خَاصَمَ فَجَر)5، وجاء في حديث عمران بن حصين -رضي الله عنه- قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (..إِنَّ بَعْدَكُم يَخُونُونَ ولا يُؤتمنُونَ).
يقول الكفوي عن عظم المحافظة على الأسرارِ والحذرِ من التساهلِ في التفريطِ فيها: "أوكد الودائع كتم الأسرار".
ولذا؛ فإن المحافظة على الأسرار أمر عظيم لا يقوم به إلا الخلَّص من الناس، وقد أجاب الراغب الأصفهاني عن سبب التفريط الشنيع في المحافظة على الأسرار بقوله : "إن للإنسان قوتين: آخذة، ومعطية، وكلتاهما تتشوف إلى الفعل المختص بها، ولولا أن الله تعالى وكَّل المعطية بإظهار ما عندها لما أتاك بالأخبار مَنْ تزوده، فصارت هذه القوة تتشوف إلى فعلها الخاص بها، فعلى الإنسان أن يُمسكها ولا يُطلقها إلا حيثما يجب إطلاقها".
وإن مما يجب أن يُعْلَم أن أمناء الأسرارِ عزيزٌ وجودهم، فهم أقل وجوداً من أمناء الأموال، "وحفظ المال أيسر من كتم الأسرار"9.. وخاصة في هذا الزمان!!..