المقاومة تتحدى: لن نستسلم.. ننتصر أو نموت د.أحمد يوسف
إن ما نشاهده اليوم من عدوان سافر على أرض قطاع غزة يستفز كل من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، حيث يتعاظم شكل الدمار والهمجية الصهيونية بصورة لم يسبق لي أن عايشتها طوال حياتي، وهي في فظاعتها وبشاعتها لا تماثل كل مشاهداتي لما تعرض له القطاع من عمليات اجتياح وحروب على مدار نصف قرن من الزمان.. إن الغارات التي تقوم بها الطائرات الحربية الإسرائيلية على مدن قطاع غزة وقراها، وهذه الصواريخ والحمم الملتهبة التي تلقي بها على بيوت الآمنين ومزارعهم، هي آخر صرعات "صناعة الموت" التي تمارسها هذه الدولة المارقة، والتي تجاوزت بما ارتكبته من جرائم حرب، وانتهاكات للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، كل ما سبق من إدانات وردود فعل واستنكار دولية لممارساتها العدوانية التي لا تتوقف، والتي كان آخرها - على المستوى الأممي - ما ورد في تقرير جولدستون بعد عملية "الرصاص المصبوب" أو حرب الفرقان عام 2008/2009م.
وإذا كان هذا هو الجانب المحزن في مشهد المعاناة الإنسانية لتغريبتنا الفلسطينية، فإن الصورة المشرقة لصمود الشعب والمقاومة في معركة كسر العظم وصراع الإرادة مع المحتل الغاصب، قد أبرزت تجليات ردع وانتقام لم يسبق لنا مشاهدتها والاعتداد بها، وذلك لما أظهرته المقاومة فيها من هندسة القوة والتخطيط، ومن حالة الاقتدار الفاعلة مقارنة بدول المحيط.
إن المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها الإسلامية والوطنية قد برهنت بأنها تاج العز والكرامة والفخر الذي يجب أن نرفعه على كل الرؤوس، وأن الذين تعودوا التهوين والاستخفاف والسخرية - أحياناً - من المقاومة، عليهم – اليوم - أن يعتذروا لدماء شهدائنا الأبرار وجرحانا الأطهار، وأسرانا المطوقين بأكاليل الغار، وإلى كل الذين أداروا – بجهد الاستطاعة - معركة الإعداد والاستعداد لهذه المنازلة التاريخية مع الاحتلال.
ولعلي اليوم أتذكر ما سبق أن سمعته من الأخ أحمد الجعبري؛ القائد العسكري لكتائب القسام، في إحدى اللقاءات الحركية قبل حرب "حجارة السجيّل"، حيث سأله أحد الإخوة عن مدى جهوزية المقاتلين واستعداداتهم، وعن إمكانيات المقاومة من حيث التسليح والقدرات العسكرية، فرد عليه رحمه الله، قائلاً: نحن الآن أنجزنا 80% مما نتطلع إليه، وإن شاء الله نتمكن من استكمال باقي تجهيزاتنا العسكرية في المرحلة القادمة.
الآن أتذكر دلالات هذا القول ومغازيه.. لقد أبدع أحمد الجعبري (رحمه الله) هو وإخوانه في الإعداد للمعركة أيما إبداع، واليوم نشهد - ميدانياً - تجسيداً لما وعدوا به "إنَّا صُبُرٌ في الحرب، صدُقٌ في اللِّقاء".
لقد طالت المقاومةَ في فترة الإعداد التي أعقبت حرب "حجارة السجيّل" وتوقيع اتفاق التهدئة ألسنةٌ حداد، واليوم مع هذه المواجهة المسلحة، والندية التي أظهرتها المقاومة في جمع المعلومات الاستخبارية، وحرفية الكر والفر حول خطوط القتال، والتي وصلنا فيها إلى حالة "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، لقد مضى زمن أن يكون الاحتلال بلا كلفة، وأن النزف يأتي من جُرح واحد.
إننا اليوم نشهد للمقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها وتنظيماتها، وانتماءاتها الوطنية والإسلامية، أنها ارتفعت بقامات هذا الوطن، واستعادت لهذا الشعب شيئاً من هيبته الجريحة، وردت للأمة مكانتها المضيَّعة تحت الشمس.
اليوم، الشارع الفلسطيني كله، وبكل فصائله الوطنية والإسلامية، يهتف للمقاومة ويتمنى عليها ألا تضع سلاحها قبل أن يتحقق لها الكسب والانتصار، وتغيير معادلة التهدئة والحصار، لأن ما نطلبه ليس شروطاً تعجيزية، بل هو الحد الأدنى الذي يحفظ لنا حق العيش بحرية وكرامة.. لقد ملَّ شعبنا مشهد الذلة والمسكنة واستجداء لقمة العيش، وقديماً قالوا: "طعم الحياة بذلة كجهنم"، ونحن نقول "هيهات منا الذلة"، وعلى نتانياهو أن يفهم بأن القسام وسرايا القدس وكتائب المجاهدين والأقصى وأبو على مصطفى هم – اليوم - قانون المرحلة، وأن الدم الفلسطيني ليس ورقة يتلاعب بها المتطرفون الصهاينة في صراعهم على السلطة والحكم في إسرائيل، وأنهم لن ينعموا بالأمن والأمان والراحة والاستقرار وشعبنا يعاني من الاحتلال والحصار.
وإذا كانت صواريخ المقاومة الفلسطينية تغطي – اليوم - برعبها كل المدن والبلدات الإسرائيلية، ويتم سماع صفارات الإنذار للتحذير منها من إسيدروت إلى نهاريا، ومن ياد موردخاي في الجنوب إلى أسدود وتل أبيب وهرتسيليا وحيفا في الشمال، فإن المستقبل القريب سيحمل من سلاح الردع ما يتجاوز كل الحسابات والمخاوف الإسرائيلية.
الحرب على غزة: وقائع وذكريات
في كل الحروب التي شاهدتها منذ طفولتي حتى الآن، وقد تجاوزت الستين من عمري، لم أشهد حالة من الاعتزاز والفخر والشجاعة والطمأنينة والبسالة كتلك التي نعيشها هذه الأيام، خاصة ونحن نواجه غارات إسرائيلية لا تتوقف، وقصف متواصل بالمدفعية والبوارج الحربية مستمر على مدار الساعة، والأخطر من ذلك أنه لا تمضي ليلة دون مجزرة دامية يذهب ضحيتها النساء والأطفال، إضافة لسياسة الاحتلال الهمجية باستهداف هدم المنازل على ساكنيها.
في عام 1956م، كنت طفلاً لم أتجاوز ست سنوات من عمري، ولكن مشاهد الخوف والهلع في شوارع رفح إثر الهجوم الذي قام به الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة في سياق العدوان الثلاثي على مصر، والذي شاركت فيه إلى جانب الكيان الصهيوني كل من بريطانيا وفرنسا، جعلني أغادر البيت على غير هدى، وألهث خلف جموع الناس التي غادرت المخيم باتجاه منطقة المواصي المحاذية لشاطئ البحر، طلباً للأمان والنجاة بحياتها وحياة أطفالها.. كان مشهد الآلاف التي هرعت لا تلوي على شيء إلا الابتعاد عن المساكن والعمران، والذي كان عرضة لقصف الجيش الإسرائيلي من الجو والبر.
ثلاثة أيام عصيبة عشتها بعيداً عن عائلتي في تلك الفترة من الاجتياح الإسرائيلي لمدينة رفح والمخيم المكتظ بالساكنين فيها، حيث لم يتوقف البكاء والحزن للحظة واحدة، حيث تفرقت العائلات وتشتت أحوالها، بسبب حالة الإخلاء التي شهدها المخيم على عجل، واستمرت مواجع الناس وأحزانها عدة أيام بلا طعام وشراب، وتحت سماء مكشوفة لاحتمالات الموت وتهديدات القتل والفناء.. بعد تلك الأيام المفزعة بالخوف والقلق والتشريد، عاد الجميع إلى المخيم من جديد، وذلك بعد أن هدأت أصوات المدافع وخفت أزيز الطائرات.. بدأ الكل في المخيم يبحث ويتفقد ويسأل عن أولاده وأقاربه، كنت الطفل الكبير بين إخوتي، ولذا كان قلق العائلة مضاعفاً، وقد رأيت كل أوجاع الألم ما تزال بادية على وجوههم.
وفي يوم 12 نوفمبر من عام 1956م ارتكب الاحتلال مجزرته بحق شباب ورجالات المخيم، حيث حصدت الرشاشات حياة أكثر من 124 شخصاً منهم، وذلك فيما عُرف بمجزرة المدرسة الأميرية، فالذي نجا من الهراوات عند الدخول للمدرسة لم ترحمه زخات الرصاص من ناحية، وانهيارات جدران المدرسة فوق كل من حاول الهرب من الموت من ناحية أخرى.
إن آثار الدم ومشاهده ظلت لسنوات على جدران المدرسة، لتذكرنا ونحن أطفال بجريمة الاحتلال، الذي لم تعرف غلظة قلوب عساكره تجاهنا الرحمة، ولم يرقبوا فينا إلَّاَ ولا ذمة.
لم يتنفس أهل قطاع غزة الصعداء، ولم يذهب عنهم الحزن ويغادر ربوع مخيمات القطاع وأحيائه الموجوعة، إلا بعد أن رحل جيش الاحتلال الصهيوني عن غزة، في السابع من مارس 1957م؛ أي بعد أقل من عام من ذلك العدوان.
وفي عام 1967م كانت الطامة الكبرى، حيث انهزمت سبعة جيوش عربية خلال المواجهة العسكرية مع إسرائيل، والتي استمرت لمدة ستة أيام، لنجد أنفسنا مرة ثانية أمام مشهد الهلع والخوف ومسلسل الأحزان، والذي واجهته شاباً يافعاً هذه المرة.
ومع النكسة التي لحقت بالأمة العربية بعد تلك الهزيمة المفجعة، تحطمت كل أحلامنا التي عشناها بأمل تحقيق الغلبة والانتصار، فبعد أن كنا نترقب تلك اللحظة التاريخية، وننتظرها بكل اللهفة والشوق، ونعد العدة للفرحة بها كل تلك السنوات التي أعقبت نكبة عام 1948م، إذ بنا نصحو وقد أطبق علينا فزع كابوس الاحتلال من جديد .. كانت مشاهد الخوف وترقب الأسوأ تعيش فينا، وترتعد لها أبداننا؛ شاهدنا في مرئيات تلك المرحلة أشكالاً مختلفة من المجازر وحمامات الدم الذي استباح بها جيش الاحتلال الإسرائيلي كل الحرمات وانتهك فيها كل القوانين والأعراف الدولية، وارتكب جرائم حرب وترويعٍ للآمنين، ولعلي هنا أشير لبعض منها، حيث كانت المجزرة الأولى التي استهدفت مجموعة من جنود الاحتياط المصريين، داخل أحد مدارس (الأونروا) بالقرب من محطة السكة الحديد برفح، وكانت الثانية التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي ضد أسرة القيادي الفتحاوي أبو على شاهين (رحمه الله) في شمال شرق مخيم الشابورة، حيث تم قتل معظم أفراد العائلة بدم بارد.
تلك المجازر شاهدتها، وشاهدت معها أجواء الفزع وحالات الهلع التي صاحبتها في وجوه الجميع؛ الأطفال والشيوخ والنساء، وحتى الرجال كان الخوف يتربع على محيَّا وجوههم، وقد بال البعض منهم في ثيابهم.
في أكتوبر عام 1973م، وقعت الحرب ونحن في طريقنا إلى مصر للدراسة في جامعاتها، لذلك كانت المشاهد تختلف في تفاصيلها، صحيحٌ أن القلق انتابنا - في البداية - خوفاً على أهلنا في قطاع غزة، لكن نبرة الحديث عن المواجهات بين الجيش المصري وإسرائيل كانت تختلف إلى حد بعيد هذه المرة.
كانت تكبيرات الله أكبر، وبطولات الجيش المصري، تمنحنا الثقة بأن النصر آتٍ لا محالة، وأنه آن الأوان ليسجل العرب أول انتصار لهم على الجيش الإسرائيلي، والذي تغنى به قادته بأنه جيشٌ لا يهزم.
في الحقيقة، شعرنا بأن أملنا في التمكين لأمتنا وتحقيقها الانتصار هو أمل ليس بعيد المنال، وأن الذي ينقص جموع العرب والمسلمين هو اجتماع شملهم السياسي، وتوحيد ما لديهم من أدوات الحرب والقتال، وتعبئة حاشدة خلف نداء الله أكبر، ويكون فيها الكل على قلب رجل واحد.
ومع عودة الحس الإسلامي إلى قطاع غزة، بعد عودة آلاف الخريجين من الجامعات المصرية أواخر السبعينيات، وقيام صحوة إسلامية قادها المجمع الإسلامي والجامعة الإسلامية، واتساع نطاق العمل الدعوي عبر المساجد والمؤسسات، شاهدنا بداية انطلاق الفعل المقاوم للاحتلال، حيث اشتعلت الانتفاضة الفلسطينية العارمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لعب فيها الكل الوطني والإسلامي دوراً ريادياً وتكاملياً بها، منحنا الشعور والثقة بإمكانية تمريغ أنف الاحتلال بالتراب، وكسر هيبة جيشه وقهره، بالرغم من الاختلال الواضح في موازين القوى من حيث الجاهزية والامكانيات العسكرية؛ لأن معطيات معادلة الصراع تتحكم فيها فواعل الإرادة، وهي التي تمنح الأفضلية والتمكين - بعد حين - لمن يمتلك الصبر والقدرة على الصمود؛ فالنصر – أحياناً – هو صبر ساعة، كما يقولون.
لقد شاهدنا ملامح العزة والكبرياء والتحدي في وجوه أطفال الحجارة، وسكنت عيوننا – نحن الشباب - تلك المشاهد لانتصار الكف على المخرز، والحجر والمقلاع على القذيفة والمدفع، والنبرة الجريئة لتعبيرات الاحتجاج التي عبرت عنها وجوه الأطفال والأمهات في مواجهة تهديدات الجنرالات، وهو شكل جديد من أشكال البطولة والفعل المقاوم، والذي طوى فيه أطفال فلسطين صفحة الخوف والجزع من عسكر المحتلين.
في تلك السنة من عام 1988م، حدث التغيير الأهم في حياتي، حيث تأكد لي بما لا يدع مجالاً للشك، أننا أمام الجيل الذي سيصنع الانتصار، وأن الاحتلال في طريقه للرحيل، وأن أحلامنا التي تآكلت فزعاً بكابوس الهزائم بدأت تنبعث من جديد.
في عام 1994م، عادت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى أرض الوطن، وشكلت ما يسمى بالسلطة الوطنية، وكانت المواجهة المسلحة "انتفاضة الأقصى" مع الاحتلال في سبتمبر 2000م، والتي أدارها الرئيس عرفات (أبو عمار) بجدارة واقتدار مع جيش المحتلين، وكان لقوى المقاومة الإسلامية والوطنية فيها نصيب الأسد، من حيث تلقين العدو الإسرائيلي درساً في كيفية التعاطي مع الفلسطينيين، واحترام كرامتهم الإنسانية.
ومع العمليات الاستشهادية وابداعات الفعل المقاوم، كان على إسرائيل وجيشها الرحيل عن قطاع غزة بذلة صاغرين، ومع الحرية التي حظي بها القطاع كانت الفرصة للمقاومة متاحة للتوسع والانتشار، وكان التأكيد على أن اعتماد أسلوب الجهاد والمقاومة ليس مجرد خيار، بل هو استراتيجية معقود في نواصيها إمكانيات التحرير والعودة.
ومع فوز حركة حماس في انتخابات يناير 2006م، وتشكيلها للحكومة العاشرة، تعززت شوكة فصائل العمل المقاوم، وسجلت المقاومة في عملية "الوهم المتبدد"، التي تمكنت فيها ببسالة من خطف أحد جنود الاحتلال، ومن تسجيل أول إنجاز كبير لتحرير الأسرى من خلال "صفقة وفاء الأحرار"، كما أن المقاومة خاضت حربين داميتين عبر التصدي للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في ديسمبر 2008م، وكذلك في نوفمبر 2012م.. وبرغم الخسائر في صفوف المدنيين من النساء والأطفال تمكنت المقاومة بصمودها ومواقفها البطولية من تلقين جيش الاحتلال دروساً في التضحية والفداء.
في الحقيقة، كان حجم الدمار هائلاً على مستوى البشر والحجر والشجر في قطاع غزة، ولكن معنويات الفلسطينيين الذين خاضوا تلك الحربين في القطاع كانت هي نفسية المنتصر؛ لأن الاحتلال لم يحقق أهدافه، وخرج يجر أذيال الخيبة والعار.
العصف المأكول والبنيان المرصوص: ثنائية التكامل والعنفوان
في المعركة التي نشاهد وقائعها منذ يوم الثلاثاء 7 يوليو 2014م الموافق 9 من رمضان، يطرح الكثيرون سؤالاً مفاده: ما الذي تغير منذ حرب حجارة السجيّل في نوفمبر 2012م؟ ما الذي دفع الإسرائيليين لافتعال حرب جديدة بعدما أثبتت الحروب السابقة أن "علامة الانتصار" ستكون من نصيب المقاومة الفلسطينية، وأن جيش الاحتلال بإمكانياته الهائلة لن يحسم معركة الميدان لصالحه؛ لأن المواجهات العسكرية هي عتاد وتكتيكات، ومفاجئات في الخطط والإمكانيات، وليست فقط تفوقاً في العتاد الحربي والقدرات. ففي الستينيات، خسرت فرنسا معركتها في الجزائر بعد احتلال دام أكثر من 132 عاماً، وذلك بالرغم من تفوقها العسكري الهائل في مقابل الإمكانيات المتواضعة لمحاربي جبهة التحرير الجزائرية، وكذلك خسرت أمريكا؛ القوة الأعظم في العالم، أمام مقاتلي "الفيت كونج" في السبعينيات، ولقد شاهد العالم سقوط الاتحاد السوفيتي المروع في مطلع التسعينيات، بعدما تداعت أسلحة ومعنويات الجيش الأحمر في أفغانستان في معاركه مع المجاهدين طوال سنوات الثمانينيات.. في أكتوبر 1983م، زرت أفغانستان في مهمة إعلامية، وقد سمعت من قادة المجاهدين هناك؛ قلب الدين حكمتيار وسيَّاف والشيخ عبد الله عزام، بأن الغزاة السوفييت سيهزمون، وسيتفكك ملكهم وتضيع هيبتهم بعد عقد من الزمان، وهذا – فعلاً - ما تحقق بالانتصار الكبير الذي صنعه المجاهدون الأفغان.
لقد علمنا تاريخ السير والملاحم بأن المعارك الطارئة قد يربحها البعض بفضل تفوقه العسكري، ولكن نضالات الشعوب لنيل حرياتها واستقلالها هي من تأتي بالنصر والتمكين في آخر المشوار.. لقد جاء اليوم الذي يمتلك فيه الفلسطينيون الجرأة والإمكانيات وقوة الصبر والإرادة على منازلة العدو وتحديه، وأن يفعلوا بجيشه ما عجزت كل جيوش العرب على فعله، وأن تصل صواريخ المقاومة لتغطى كل مدنه وقراه من الشمال إلى الجنوب، في سيمفونية رائعة وحالة اقتدار مبدعة في مفاجآتها، تجعلنا نضع المقاومة الباسلة ورجالاتها تاجاً فوق رؤوسنا جميعاً.
لقد عبر الفلسطينيون بفخر عن اعتزازهم بالمقاومة بكل فصائلها المقاتلة؛ الوطنية والإسلامية، وعلى رأسها كتائب الشهيد عز الدين القسام وسرايا القدس وكتائب المجاهدين.. فمنذ الساعات الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تواصل معي الكثير من كوادر وقيادات حركة فتح، ومن الشخصيات الوطنية، ليشيدوا بما قدمته المقاومة من إبداعات عسكرية ومفاجآت في ميدان معركة الدفاع عن الكرامة الفلسطينية، ولقد أسعدني مشاركة الكثير منهم في أعراس تشييع الشهداء وفي مجالس العزاء، كما أعرب البعض منهم عن جاهزيته ليحمل السلاح جنباً إلى جنب مع إخوانه في حركة حماس.. ولعلي هنا أنقل أحد الرسائل التي جاءتني من أحد قياداتهم في منطقة خانيونس، حيث كتب يقول: "نقف انحناءً لإبداعاتكم الجهادية وتضحياتكم الجسام، فكل المحبة والتحية والإسناد لموقفكم الطليعي والمميز في معركة القدس؛ فيداً بيد، وساعد بساعد نحو فلسطين المحررة".
لقد كانت أيام المواجهة مع المحتل الغاصب فرصة لكي نجلس ونتحاور، ونعاود تجديد العهد بالعمل معاً من أجل فلسطين.
طوبى لمن لقي الله شهيداً دفاعاً عن الوطن وكرامة أهله، والعزة والمجد لكل المرابطين على الثغور، والمجاهدين في ساحات الوغى في معركة العصف المأكول والبنيان المرصوص، حيث تهون علينا في المعالي نفوسنا. شعارنا: "احرص على الموت توهب لك الحياة"، إنني أومن – كما قالها عمر المختار - بحقي في الحرية، وبحق بلدي بالحياة، وهذا الإيمان عندي أقوى من كل سلاح.
اليوم نقولها بقوة وثقة: ستنتصر المقاومة، وسترتفع راياتها إلى عليين، برغم أنف نتانياهو وحكومته اليمينية المتطرفة وقادته العسكريين، وسنعود إلى بيتنا الفلسطيني، لإصلاح شرخ الانقسام، حيث يجتمع الشمل لنحتفل ببهجة ما أنجزناه لوطننا أجمعين.