تاريخ النشر : 2009-07-13
من أسباب الارتقاء بالهمم(3)
من أسباب الارتقاء بالهمم(3)
تحدثنا في مقالين سابقين عن بعض أسباب الارتقاء بالهمم، وفي مقالنا هذا نشير إلى المجموعة الأخيرة من هذه الأسباب على النحو التالي:
(1) التحول عن البيئة المثبطة:
وفي ذلك يقول الشيخ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله:
"إن للبيئة المحيطة بالإنسان أثرا جسيما لا يخفى ، فإذا كانت بيئة مثبطة داعية إلى الكسل والخمول وإيثار الدون، فإن على المرء أن يهجرها إلى حيث تعلو همته ،كي يتحرز من سلطان تأثيرها، وينعم بفرصة الترقّي إلى المطالب العالية.
تقول ابنة السعدي وهي تلومني أما لك عن دار الهوان رحيل
فإن عناء المستنيم إلى الأذى بحيث يذل الأكرمون طويل
وعندك محبوك السَّراة مطهّم وفي الكف مطرور الشباة صقيل
(الفرس المحبوك: القوي الشديد، سراة الفرس: أعلى متنه، المطهّم: المتناهي في الحسن، المطرور: ذو المنظر الحسن والهيئة الحسنة، الشباة: حد طرف السيف، الصقيل: المجلو)
وأشد الناس حاجة إلى تجديد البيئة المحيطة وتنشيط الهمة: الحديث العهد بالتوبة، فإن من شأن التحول من بيئة المعصية إلى بيئة الطاعة أن ينسيه ما يجذبه إلى صحبة السوء وأماكن السوء، فيجتمع قلبه، ويلتئم شمله، وتتوحد همته، وتتوجه بصدق وعزم إلى أسلوب من الحياة جديد.
أخي: إن الماء تتغير رائحته بقربه من الجيف، وإذا بعد قليلا عن مكان الجيف تغير ما كنت تجده، فكيف بأنفاس العصاة؟!
فالفرار الفرار من بيئة الكسل والركود ودناءة الهمة.
ولا تتخذ بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا.
(2) مصاحبة ذوي الهمة العالية:
فمما اتفقت عليه كلمة الأنام أن للصاحب تأثيرا في صاحبه، فاتخذ ذوي الهمم العالية أعوانا، واخلط نفسك مع الأبرار، وطهرها من الفجار واجتنب اللئام الأقذار، فالمرء يعرف بقرينه، فاصحب من يحملك في سيرك إلى الله عز وجل لا من تحمله.
أخي: إن رؤية وجوه الصالحين تشحذ الهمم فكيف بصحبتهم وكلامهم ونصحهم.
لقد كان الناس إذا رأوا وجه وكيع بن الجراح قالوا: هذا ملك. وإذا رأوا وجه محمد بن سيرين سبحوا الله لمخايل النور على وجهه.
قال الفضيل بن عياض: نظر المؤمن إلى المؤمن يجلو القلب، ونظر الرجل إلى صاحب بدعة يورث العمى، من جلس مع صاحب بدعة لم يعط الحكمة.
وقال عبد الله بن المبارك: إذا نظرت إلى الفضيل جدد لي الحزن، ومقتُ نفسي، ثم يبكي رحمه الله.
فصاحب علاة الهمم وصافهم ، واستفد من أخلاقهم وأوصافهم، إن لم يكن لك قدرة على البذر، ولم تطق مراعاة الزرع، فقف في رفقة: (وإذا حضر القسمة أولو القربى).
إن صدقت في طلابهم فانهض وبادر، ولا تستصعب طريقهم فالمعين قادر، تعرض لمن أعطاهم، وسل فمولاك مولاهم، ربَّ كنز وقع به فقير، وربَّ فضل فاز به صغير...علم الخضر ما خفي على موسى، وكشف لسليمان ما غطى عن داود.
(3) الصبر والمثابرة:
فبهما مع اليقين تُنال الإمامة في الدين، ومن تلمح حلاوة العافية هان عليه مرارة الصبر.
وقل ساعدي يا نفسُ بالصبر ساعة فعند الـلقــاء ذا الكـد يصـبح زائلا
فما هي إلا سـاعـة ثـم تـنقضي ويصبح ذو الأحزان فرحان جـــاذلا
إن صبر أهل اليقين جعلهم أئمة الدين، لكن من استطال الطريق ضعف مشيه:
وما أنت بالمشتاق إن قلت بيننا طوال الليالي أو بعيد المفاوز
أخي: لا بد من مرابطة على الحق الذي عرفت جماله، والإيمان الذي ذقت حلاوته: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون).
(4) الخلوة:
فإنها تعين على التفكر والتدبر، وتصفي القلب من العلائق والشواغل، وتفرغه لمولاه.
أوحشتني خلواتي بك من كل أنيس
وتفردت فعاينتـــك بالغيب جليسي
ودعاني الوجد والحب إلى المعنى النفيس
فبدا لي أن مهر الحــب أنفاس النفوس
يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله:
إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلو ذاته عن الفضيلة، فيكثر حينئذ ملاقاة الناس، ويطرد الوحشة عن نفسه بالسكون معهم.
ويقول بعض العلماء: لا بد للعبد من أوقات ينفرد فيها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكيره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه وما يختص به من الأمور التي لا يشرك فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراد بنفسه.
كان عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: كان أبي أصبر الناس على الوحدة. وقال: لم ير أحد أبي إلا في مسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق.
ويقول بعض الفضلاء: إنه لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لها من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع من شواغل الأرض وضجة الحياة ، وهموم الناس، لا بد من فترة التأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة.
وفي الخلوة من الفوائد :
1-السلامة من آفات اللسان.
2- حفظ القلب من الرياء.
3- وجدان حلاوة الطاعة.
4-حفظ البصر وحصول راحة القلب.
5- حصول الزهد والقناعة.
6-التمكن من عبادة التفكير والتدبر.
(5) مطالعة سير علاة الهمم :
فإن أخبار العلماء العاملين والنبهاء الصالحين من خير الوسائل التي تغرس الفضائل في النفوس ، وتدفعها إلى تحمل الشدائد والمكاره في سبيل الغايات النبيلة والمقاصد الجليلة، وتدفعها إلى التأسي بذوي التضحيات والعزمات، لتسمو إلى أعلى الدرجات وأشرف المقاصد.
قال الجنيد رحمه الله: الحكايات جند من جنود الله عز وجل ، يقوي بها إيمان المريدين. فقيل له : هل لهذا شاهد ؟ قال : قوله تعالى : ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ).
إن التعرف على أخبار وأحوال الصالحين لهو من خير الوسائل لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور.
إننا لا نقصد من وراء ذلك مجرد سرد قصصهم وحكاياتهم دون فقه وعلم نافع يُعرِّف الناس بدينهم فيحملهم على العمل، إننا نريد من وراء ذلك إبراز القدوة الصالحة التي يتأسى بها المسلم خلقا ودينا، قولا وعملا.
قال ابن الجوزي رحمه الله : سبيل طالب الكمال في طلب العلم، الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد...فالله الله، وعليكم بملاحظة سير السلف ، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم ،فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم، كما قال القائل:
فأتني أن أرى الديار بطرفي فلعلي أرى الديار بسمعي
وأخيرا أيها الحبيب: هذه بعض أسباب الارتقاء بالهمم قد وضعناها بين يديك، فهّلا أخذت بها؟ وصبرت عليها؟.