تاريخ النشر : 2009-07-13
فلا تخافوهم وخافوني
فلا تخافوهم وخافوني
الحمد لله فاطر السماوات والأرض، الذي خلق كل شيء ثم هدى، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ثم اهتدى.
ثم أما بعد...
إن الخوف صفة طبيعية في النفس البشرية، مثلها مثل بقية الصفات - كحب النفس وحب الدنيا والجزع والغضب والحزن وغيرها - وهي لا تدل على ضعف الإنسان بقدر ما تدل على طبيعته، إلا إذا تحول هذا الخوف إلى عاهة تثبط صاحبه وتمنعه من مزاولة واجباته وتدفعه إلى اقتراف المعاصي والذنوب بدلاً من أداء الطاعات والفروض.
ولقد نبه الله تعالى إلى هذه الحقيقة في عدة مواطن من كتابه الحكيم، مثل قوله تعالى وهو يتحدث عن موسى عليه السلام: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى، قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} [طه: 67 - 68]، وقوله: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه: 21]، وقوله مخاطبا موسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وعلى لسانهما قوله تعالى: {قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى} [طه: 45].
والأمثلة في ذلك كثيرة في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كلها تدل على حقيقة أن الخوف صفة طبيعية في الناس ينبغي عليهم تجاوزها.
أسباب الخوف وجذوره:
1) الوراثة:
كثيرة هي الصفات التي يرثها الأبناء عن الآباء، مثل الكرم والجود والشجاعة والإقدام، وكذلك الصفات السلبية مثل البخل والحرص والجبن والخوف.
فحينما تكون الأم خائفة أثناء الحمل وأثناء فترة الولادة؛ فإنها تنقل ذلك الخوف والتوتر إلى وليدها، فيرث عنها هذه الصفات التي قد تلزمه طول حياته إن لم يتداركها بالتربية والتعود على الصفات المعاكسة لها، وهذه حقيقة علمية تؤكدها التجربة في الواقع الفعلي.
لذلك وجب على الآباء التنبه إلى هذه المسألة، ومحاولة التخلق بالأخلاق الحميدة لتنتقل إلى أبنائهم، حتى وإن كنا لا نريد لعب دور فعال وإيجابي في عملية التغيير القادمة، فعلى الأقل لا نحرم أطفالنا من لعب هذا الدور مستقبلاً ويكون لنا شرف المشاركة في هذا العمل المبارك.
2) التربية:
لا شك أن عملية التربية لها دور كبير في تكوين البنية النفسية والأخلاقية للطفل، فعملية التلقين التي يتلقاها الطفل في البيت تساهم في تسطير شخصيته المستقبلية - شئنا ذلك أم أبينا - لأن الطفل لابد أن يبحث عن مثل أعلى في حياته ليتخذه قدوة في سلوكياته وحركاته، هذا بالإضافة إلى التأثير الكبير الذي يتركه تعاملك مع طفلك ومدى الآثار السلبية أو الإيجابية التي تتركها طريقة التربية وطريقة تصحيح أخطائه وتوجيهه.
فالطفل الذي يتعرض إلى الضرب الدائم لأتفه الأسباب، وإلى السب والشتم كلما اقترف ذنباً أو خطأ؛ سوف يفقده ثقته في نفسه، وتنهار شخصيته في صغره، وهذا من شأنه أن يؤثر سلبياً في عملية التربية التي نتوخاها، وسوف نكوُن فرداً فاشلاً لا يصلح لشيء في هذه الحياة.
كما أن عملية التخويف المستمرة التي يتلقاها الطفل في صغره؛ سوف تجعل منه فرداً يخاف من كل شيء، ولا يمكن أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام لوحده، لأنه سيجد أمامه جداراً سميكاً من العقبات تحجب رؤيته وتكبل جوارحه وتجمد إرادته، في الوقت الذي ينبغي زرع الثقة في نفسه وتعويده على إنجاز أعماله بنفسه وتشجيعه على أخذ المبادرة في كل الأمور واستصغار المشاكل والعقبات في عينيه لكي لا يخاف من الإقدام.
والطغاة في كل زمان ومكان؛ يحاولون فرض سياسة تعليمية خاطئة مبنية على الإرهاب والتخويف، لكي يتحول الشعب إلى قطيع ينقاد بكلمة وتهديد، ولا يملك إرادة النقد ولا إرادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يخافون من كل شيء، ويقبلون كل شيء مهما خالف مبادئهم أو تناقض مع توجهاتهم، ما دام أن في ذلك السلامة وعدم التصادم مع الأنظمة الحاكمة.
وهكذا نرى شعوباً ترضى بالذل والتبعية، وتقبل الظلم والاستبداد، لأنها تعرضت لعملية تربية قائمة على الإرهاب والتخويف انتهت بسلب الشخصية وزرع التبعية والخضوع، لمجرد أنها حازت على لقمة عيش ملوثة بعيداً عن الاحتكاك بالأنظمة، تسمع وتطيع، تنفذ ما يملى عليها بلا نقاش ولا تردد.
أما سياسة التأديب والعقوبة؛ فتكون هي الأخرى مبالغ فيها وتتجاوز القدر المطلوب، حيث تتحول إلى هدف في حد ذاته وليس وسيلة للتصحيح والنقد البناء، وهي نفس الطريقة التي تستعملها الأنظمة الحاكمة في حق الشعوب، فنرى الأحكام القاسية والظالمة لا تتناسب مع الجرائم المقترفة، والهدف ليس هو التربية والتأديب، إنما التخويف وتحطيم الإنسان ككل؛ حتى لا يبقى لديه أي أمل في الحياة فضلاً عن النفع و العطاء، هذا فضلاً عن التفكير في المشاركة في أي عملية تغيير للواقع الفاسد.
3) ضعف الإيمان بالله:
يعتبر من أهم أسباب الخوف على الإطلاق، فالأسباب السابقة يمكن تجاوزها إذا عرف المرء قيمة ربه وخالقه، وعرف أنه المدبر في هذا الكون، ولا يملك أحد لأحد نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، وأنه لو اجتمعت الإنس والجن في صعيد واحد على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وان الموت والحياة بيد الله تعالى لا يملك أحد أن يقدم أو يؤخر أجلاً، وبأن الرزق من عند الله هو الذي يعطي ويمنع متى شاء، بسبب وبغير سبب.
فما دام كل هذه الأمور بيد الله سبحانه، فلم الخوف يا ترى؟! وممن الخوف إذن؟!
إن ضعف العقيدة في أن الله تعالى كاف عبده؛ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ} [الزمر: 36]، وقادر على أن يحميه ويدافع عنه؛ {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، وأن الله تعالى يقف بالمرصاد في وجه أعداء المؤمنين ليحول بينهم وبين أوليائه؛ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14].
وأن الموت الذي يخاف منه المرء ويجعل الخوف سبباً ووسيلة للهروب منه، هو ملاقيه، وهو بيد الله تعالى؛ {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8].
هذا الضعف في العقيدة هو الذي يرسخ الخوف في نفوس العباد، ويحعلهم عبيداً لهواجس وتخمينات وافتراضات خيالية تمنعهم من أداء واجباتهم كما أمرهم الله عز وجل.
وفي هذه الحالة يتحول المرء إلى ولي من أولياء الشيطان؛ {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، يتصرف فيه كيف يشاء، يوسوس له ويخيفه من كل شيء، حتى لا يكاد يخطو خطوة إلا ويعتقد أنه سيفشل وسيلقى المصائب في طريقه، فلا يلبث أن يتراجع فيظل جامداً في مكانه فريسة للهواجس والوساوس الشيطانية.
وبهذا يكون الشيطان قد صدق عليهم ظنه، وهمشهم بعيداً عن معترك الصراع الدائر بين أولياءه وأولياء الله.
كيف تقضي على الخوف؟
1) تشخيض الخوف:
لابد من تشخيص المرض بداية لكي نتمكن من علاجه، والخوف مرض عضال وخطير إن لم يتنبه له صاحبه.
وهو أنواع كثيرة؛ فهناك من يخاف من المرض، ومن يخاف من الموت، ومن يخاف من الفقر، ومن يخاف من الناس، ومن يخاف من المستقبل بصفة عامة وغيرها من الأنواع، لذلك ينبغي على المريض أن يشخص نوعية الخوف الذي يعاني منه، ليتمكن بالتالي من إيجاد الدواء المناسب له.
فالذي يخشى ويخاف الفقر مثلاً؛ عليه أن يرجع إلى النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في هذا المجال، وكذلك أقوال العلماء في تناول هذا الموضوع، لكي يزيل عن نفسه تلك الشبهات والمفاهيم الخاطئة، فيتحرر من تلك القيود.
وهكذا يصنع مع كل نوع من أنواع الخوف؛ الرجوع إلى الشافي المعافي الحقيقي؛ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
2) الإيحاء بالبطولة:
المرء حيث وضع نفسه، ومن المعلوم أن الجانب النفسي له تأثير كبير على الإنسان، فقوة الدفع هي التي تدفع المرء إلى الفعل، وكلما ضعف الجانب النفسي كلما أحجم الإنسان عن تنفيذ الكثير من الأعمال كان بإمكانه فعلها لو توفرت هذه العوامل النفسية.
فالإيمان بالنصر واليقين في وعد الله تعالى؛ هو الذي يدفع المؤمن إلى البحث عن أسبابه وعن الوسائل اللازمة لتحقيقه.
واليقين بأن المؤمن أفضل من غيره بسبب إيمانه وارتباطه بالله تعالى؛ هو الذي يدفع هذا المؤمن إلى الاستعلاء على غيره من الكفار والمرتدين والمشركين، ويسعى إلى لعب دور المصلح والمربي والهادي إلى سبيل الله.
إن المؤمن بطبعه محب للخير، ساع إلى نشره بين الناس، ويضحي بالكثير من القيم المادية في سبيل القيام بهذه المهمة، كونها تدخل في إطار عبادته لربه الرحيم واقتفاء لسنة نبيه الكريم، ومن هنا تجد المؤمن يوحي لنفسه بعظم المهمة ويقف مواقف البطولة والتضحية في كل خطوة يخطوها.
3) قراءة سير الأبطال:
لقد فطر الله الإنسان على الكثير من الملكات وجوانب القوة التي يمكن تسخيرها في الخير والشر، وذلك بناء على عقيدة هذا الأخير ومبادئه.
ولقد عرف التاريخ الكثير من الشخصيات تركت آثارها وبصماتها في المسيرة الإنسانية - سلباً أو إيجاباً - اعتبروا أبطالاً وسط أقوامهم، بصرف النظر عن عقائدهم وأهدافهم التي قاموا من أجل تحقيقها، وقد تحولوا إلى مثل أعلى وقدوة دائمة لشعوبهم، ما زالوا يقتفون أثرهم في جميع مراحل مسيرتهم التاريخية.
يعتبر هؤلاء مصدر إلهام لشعوبهم، وسبباً في شحذ الهمم ودفع مسيرة التغيير والإصلاح في الاتجاه الصحيح.
ونحن معشر المسلمين، أحوج الناس إلى قراءة سير هؤلاء الأبطال، لأن الله أمرنا بذلك في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ}، وفي الكثير من الآيات في كتاب الله، كلها تحث على الاستفادة من التجارب السابقة، واقتفاء أثر هؤلاء الأبطال المصلحين، لكي تستمر عملية التغيير والإصلاح.
مهما نختلف مع بعض هؤلاء الأبطال في الاعتقاد والغايات، فإنه لابد أن نجد قواسم مشتركة في عملية التغيير ينبغي الاستفادة منها في كل حال.
مع أن لدينا اكتفاء ذاتي في هذا المجال، فتاريخنا الإسلامي مليء بالأبطال والمصلحين العظام، وكل بطل من هؤلاء يعتبر مدرسة في حد ذاته، وقدوة لكل مؤمن في مجال الدعوة والجهاد.
ودورنا؛ هو قراءة متأنية وواعية لهذه السير، ونقلها لأجيالنا القادمة، لتكون نبراساً لا ينطفئ ووسيلة لشحذ الهمم وتقوية العزائم لتحقيق الأهداف ونيل الغايات.
4) الإقدام:
وهو عكس الإحجام والتهيب، والمؤمن مطالب بالإقدام والتوكل على الله تعالى في كل أعماله؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}، فالنفس بطبعها ميالة إلى الخمول والدعة والراحة، ولابد من دفعها إلى أداء الواجبات دفعاً، لكي تستقيم وتتعود على فعل الخيرات وأداء الواجبات، هذا في الوقت الذي تجد المتعة في اقتراف المعاصي والانحراف عن جادة الصواب.
ومن الأمور العظيمة والكبيرة التي ينبغي تعويد النفس على أدائها؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنفاق المال والوقت والنفس في سبيل الله، ومقارعة الظالمين والكافرين والمرتدين.
فتعويد النفس على هذه الأمور يكون بالتدرج تارة، وبالإقدام تارة أخرى، حتى تجبل هذه الأخيرة على هذه الأعمال فتكون عندها يسيرة بعدما كانت كالجبال الرواسي.
فالقاعدة العظيمة التي تقول: "إذا خفت من أمر فقع فيه"، تعتبر الشعار الذي ينبغي أن تتخذه النفوس الكبيرة لكي تساهم في تحرير الأمة وإعادة بناء مؤسساتها، لكي ترجع إلى مزاولة دورها الحقيقي؛ {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}.
ويعتبر الموت من أكبر الحواجز الذي يخشاه المرء، وهو من أكبر المثبطات التي تقعد الإنسان عن أداء واجباته ومواجهة أعدائه، والموت شيء طبيعي ولا ينبغي أن يقعد الإنسان ويكبله عن التقدم في مسيرة التغيير الكبرى.
فسلفنا الصالح كانوا يطلبون الموت في كل لحظة من لحظات عمرهم، وكان شعارهم هو؛ "أطلبوا الموت توهب لكم الحياة"، وكانت التوجيهات القرآنية هي التي تطبع حياتهم وسلوكياتهم في كل حركة وسكنة، {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله تعالى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
كل هذه التوجيهات وغيرها كثير؛ من شأنها أن تزيل كل الشوائب والتخوفات، وتحطم كل العوائق والعقبات، وتكسر كل القيود والمكبلات من طريق المؤمن، وتجعله ينطلق حراً خفيفاً ابتغاء وجه الله، مؤدياً لواجباته الإيمانية كما يحب الله ويرضى.
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}، {ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.
5) تحجيم الدنيا:
كراهية الموت مرادف لحب الدنيا، وحب الدنيا؛ هو الذي يمنع المؤمن من العطاء والتضحية والفداء، ويدفعه إلى الحرص والإحجام والخوف، لذلك وجب على المؤمن أن يعرف حقيقة هذه الدنيا ومدى حقارتها.
فالدنيا دار ممر، وجسر للعبور إلى دار المقر، ولا يمكن لعاقل أن يتمسك بالفاني مقابل الباقي، ولا أن يبني فوق الجسر أو الممر لكي يسكن ويستقر، فالعاقل يبني حيث القرار الدائم.
كذلك مثل الدنيا والآخرة، فإن الأولى فانية، والثانية باقية، وما دام الأمر كذلك؛ فالأحرى بنا أن نجعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأن نربي أنفسنا وأبناءنا على هذه الحقيقة القرآنية العظيمة؛ {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} [الكهف: 45].
حينما يصل المرء بنفسه إلى هذه الدرجة الرفيعة لفهم الحياة؛ فإن طريق التغيير والتضحية ستكون معبدة وسهلة للغاية، لأن الحمل خفيف ولن يؤخر أو يبطئ عملية المسير أبداً، كما وسيزول الخوف من فقدان الغالي والنفيس، لأن القلب قد امتلأ بحب الآخرة وما عند الله، ولم يعد فيه مكان لمتاع الدنيا.