تاريخ النشر : 2009-08-16
بــين النكبة والنكسة
بقلم الشيخ/ كمال خطيب
لم يكد شهر ايار يتم ايامه الاحدى والثلاثين الا والساحة السياسية العبرية تشهد احداثاً متسارعة كشفت مقدار العفن والفساد الذي يستشري في اوساط السياسيين الصهاينة، هذه الاحداث أنست الصهاينة ما ابتدأوا به شهر أيار هذا من الأفراح والليالي الملاح بالذكرى الستين لإغتصاب فلسطين وإقامة كيانهم المزعوم.
واذا كان ايهود اولمرت رئيس وزراء الكيان هو بطل فيلم الفساد والرشاوى المالية كما تعلن عن ذلك وسائل الاعلام، بما يرشح من التحقيقات ومن التسريبات التي يقف وراءها مسؤولون كبار آخرون، الا ان مظاهر الفساد المالي بلغت ذروتها الى الحد الذي قال فيه احد مستشاري اولمرت في محاولته للدفاع عن اولمرت (كل واحد وتالنسكي شلو) اي ليس فقط اولمرت كان يأخذ الاموال من الثري اليهودي الاميركي تالنسكي وانما لكل مسؤول وسياسي صهيوني ثري آخر مثل تالنسكي يتلقى منه الاموال والهبات والرشاوى، ومثله قال الصحفي الشهير عمانوئيل روزين تحت عنوان (كلنا اولمرتيم)، اي كلنا مثل اولمرت في السلوك، صحيح ان اولمرت يجب ان يرحل ولكن لسنا كلنا صديقين .
تأتي هذه العاصفة السياسية بل وهذه الهزة العنيفة لتؤكد حقيقة مخاوف اولئك العقلاء الذين كتبوا متشائمين عن مستقبل الكيان العبري في الذكرى الستين لإقامتها في ظل استمرار التردي والابتعاد عن القيم الصهيونية التي نشأ عليها جيل البناة والمؤسسين.
وتأتي هذه العاصفة السياسية في غمرة الحديث عن استعدادات الكيان العبري العسكرية لضرب المشروع النووي الايراني، ولعملية عسكرية واسعة النطاق في غزة في ظل رفض الكيان للتهدئة وللوساطة المصرية للوصول اليها، ومن جهة ثانية فإن دولة الكيان تستعد كذلك لتوجيه ضربة لحزب الله في محاولة لرد الاعتبار لهيبتها ولجيشها الذي هزم في حرب تموز 6002، الأمر الذي يجعل الساحة العبرية مرتبكة أشد الارتباك، فهي من جهة تعيش حالة التنافس الحزبي وتصفية الحسابات الداخلية ومن جهة أخرى فإنها تعيش هواجس ايران النووية والمقاومة الفلسطينية التي تزداد تسلحاً وتطويراً لمدى صواريخها، وحزب الله الذي يكدس الصواريخ بكميات رهيبة في جنوب لبنان.
وتمر هذه العاصفة مع ذكرى حرب الخامس من حزيران التي كانت يوم الخميس 5/6 وذلك قبل إحدى وأربعين سنة حين انتصرت دولة الكيان وهزمت جيوش ثلاث دول عربية واحتلت غزة وسيناء والقدس والضفة الغربية والجولان السوري، ومع أن دولة الكيان ما زالت تعيش نشوة ذلك الانتصار وقدرتها على مباغتة جيوش هذه الدول وتمريغ كرامتها في التراب، إلا أنها في نفس الوقت تدرك ان امكانيات تغير الموازين واردة جدا، وقد تكون مفاجئة في ظل تجربة الكيان الصهيوني مع العرب بعد ست سنوات فقط من حرب الخامس من حزيران، اي في حرب رمضان من العام 1973.
ولقد لفت انتباهي وأنا اقلب صفحات الكتاب الذي صدر باللغة العبرية خصيصا مع احتفالات الكيان بالذكرى الستين لإقامته، الذي هو بعنوان (إسرائيل وهذه السنوات الستون) للصحفي نسيم مشعال والذي يرصد أهم المحطات في تاريخ الدولة بين الأعوام 1984 - 2008، الدولة العبرية هذه التي احتلت أراضي عربية كثيرة خلال ستة ايام فان الكتاب وخلال الحديث عن اليوم الثالث من أيام الحرب أي يوم 7/6/1967 وعند احتلال القدس ودخول الجيش الصهيوني إلى المسجد الأقصى الشريف محتلاً ومدنساً فيقول الكتاب: "الدموع جرت على الوجوه المغبرة للجنود والضباط الذين انهوا ساعات طويلة من القتال الصعب والقاسي" ذلك في وصف لجنود الاحتلال الذين دخلوا الأقصى وتصريح القائد الأول فيهم موطه غور عبر اللاسلكي:" المسجد الاقصى بيدنا أكرر المسجد الأقصى بيدنا " ثم قيام حاخام الجيش بالنفخ في القرن على أسوار المسجد الأقصى.
في مقابل ذلك وفي نفس الكتاب فإننا نقرأ عن دموع تنساب وتجري على وجوه مكفهرة وحزينة لقادة عسكريين صهاينة، ولكن المشهد هذه المرة كان بسبب الهزيمة المرة التي منيت بها دولة الكيان وجيشها بعد ست سنوات من حرب حزيران 1967م وذلك في حرب العاشر من رمضان الموافق للسادس من تشرين عام 1973، يتحدث الكتاب وكاتبه الصحفي نسيم مشعال عن يوم 7 و 8/10/1973 وحيث وردت الأخبار عن عبور الجيش المصري لقناة السويس وتكبيده للجيش الصهيوني خسائر فادحة، وعن تقدم الجيش السوري واسترداده كل هضبة الجولان ووصوله قريباً من بحيرة طبريا "حيث أن وزير حرب العدو يومها موشيه ديان قد وصف الحالة في اجتماع لجنة محرري الصحف بأنها حالة كارثية يمكن أن تقود إلى خراب الهيكل الثالث بحق اليهود، المحررون كانوا كئيبين ومهمومين تحدثوا عن هزة أرضية، والبعض منهم انفجر بالبكاء، موشيه ديان طلب السماح له بالظهور على الحقيقة المرة لكن رئيسة الوزراء غولدا مئير منعته من ذلك".
إنها فقط ست سنوات فصلت بين دموع الفرح ودموع الحزن انهمرت من عيون نفس قادة جيش العدو، مرة كانت دموع فرح ونشوة بانتصارهم على العرب واحتلالهم القدس والمسجد الاقصى المبارك، ومرة كانت دموع الذل والحزن والهوان بسبب هول الصدمة التي أصابتهم من سرعة تقدم الجيوش المصرية والسورية على جبهتي سيناء والجولان.
وإذا كانت دولة الكيان قد استطاعت أن ترسم لجيشها صورة وهالة الجيش الذي لا يقهر وانه الذي أذل ومرغ كرامة العرب في التراب إلى الحد الذي وقفت فيه غولدا مئير عام 1967م عند "رأس محمد" وهي آخر نقطة في جزيرة سيناء جنوباً، وتتجه بنظرها نحو ارض الحجاز القريبة منها ولتقول:"إني أشم رائحة أجدادي في خيبر"، تقصد اليهود الذين طردوا من المدينة المنورة وما حولها بسبب عداوتهم وكيدهم للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في عهد الدعوة الإسلامية الأول.
أقول إذا كانت دولة الكيان العبري قد نجحت في ترويج هذه الهالة لجيشها وجاءت نكسة الخامس من حزيران لتعزز ما كان في نكبة أيار 1948 فقد جاءت حرب رمضان 1973 لتبدد هذه الأسطورة ثم جاءت معركة الثلاثة والثلاثين يوما في تموز وآب 2006 والصمود الاسطوري للمقاومة اللبنانية ومشاهدة الدنيا اجمع خروج الجنود الصهاينة منهكين قد خلعوا ملابسهم وأجهشوا بالبكاء والعويل كأنهم خارجون من القبور، ولعلها كانت في هذه المرة دموع اختلط فيها الفرح والحزن، إنها دموع انتكاستهم وهو ما أصابهم ودموع فرحتهم بأنهم بقوا على قيد الحياة وقد رأوا الموت بأعينهم يحصد أرواح زملائهم.
وإنّه نفس المشهد رأيناه يتكرر في شباط 2008 عند محاولتهم دخول حي الشجاعية في مدينة غزة والمقاومة الأسطورية التي قابلهم بها المقاومون الفلسطينيون إلى الحد الذي رأينا فيه الجنود عبر شاشات التلفاز وهم منسحبون وفي أعينهم الخوف والفزع من هول ما رأوا حتى أن احد قادتهم قد قال:"هذه ليست غزة التي كنا نعرفها "وقول الآخر" إننا لم نقاتل مخربين وإنما قاتلنا كتيبة الشجاعية".
صحيح انه قد مرت ستون سنة على ذكرى النكبة ومرت إحدى وأربعون سنة على النكسة، وصحيح أن الكيان الصهيوني يومها قد مرغت كرامة العرب في القنطرة والقنيطرة (مدينة القنطرة المصرية عند قناة السويس، ومدينة القنيطرة السورية في أطراف الجولان السوري وتبعد عن دمشق ما لا يزيد عن 60كم)، ولكن أسوأ ما كان في النكسة إنما هو سقوط القدس واحتلال المسجد الأقصى المبارك، وإصرار دولة الكيان على ضم ما احتل عام 1967 إلى الكيان العبري واعتباره جزءاً من القدس التي احتلت عام 1948م.
ان ضياع القدس انما هو ضياع بوصلة العرب والمسلمين واضطرابها واختلالها، ذلكم ان القدس كانت دائما هي البوصلة التي تؤشر على حالة الامة فكلما كانت الامة مهتمة بالقدس وكلما كانت القدس عزيزة مكرمة كانت الامة في عافية ورفعة وتمكين، والعكس هو الصحيح فكلما كانت القدس محتلة ومحزونة ومهانة كان هذا دليلا واشارة على انتكاسة الامة وسوء حالها، اذن فالقدس هي بوصلة الامة والمؤشر والدليل على حالتها التي تعيشها.
واذا كانت القدس قد سقطت في يد الاحتلال في قسمها الاول عام النكبة واستكمل الصهاينة احتلالها في عام النكسة، وبالتالي اصبحت كلها بيد الاحتلال بل وعاصمته الابدية كما يعلن، ومن ضمن ذلك المسجد الاقصى المبارك قبلة المسلمين الاولى وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين فان هذا كله يشير الى حالة الوهن التي اصابت الامة في تلك السنوات وسيظل الحال كذلك ما دامت القدس تحت الاحتلال تلعق جراحها وتندب حظها.
ومع ذلك فان التاريخ يعلمنا أن هذه الحالة لم تكن هي الأولى من نوعها ولا فريدة الدهر بل أن القدس قد وقعت قبل ذلك بيد الاحتلال الصليبي مدة تسعين سنة وليس إحدى وأربعين سنة وكان حال الأمة يومها كحال امتنا يوم ضاعت القدس قبل أربعين سنة ولكن التاريخ كذلك يذكرنا ويعلمنا أن بوصلة الأمة عادت إلى المسار الصحيح والاتجاه القويم السليم، يوم أصبحت القدس قضية الأمة كلها وشغلها الشاغل، فهي التي كانت حبيبة الصغار والغصة في حلوق الكبار يبكيهم حالها كما كان الحال مع صلاح الدين الأيوبي رحمه الله الذي كان إذا سئل عن سبب عدم ابتسامته وضحكه فانه كان يقول "إني استحي من الله أن اضحك وما تزال القدس والأقصى بيد الصليب".
القدس التي كان يفكر أبناء الأمة فيما يهدونه لها يوم تحريرها وخلاص مسجدها من الأسر كما كان يفعل ذلك النجار الحلبي الذي أبدع في صناعة المنبر بتوصية من الفاتح صلاح الدين، هي نفسها القدس التي جعلت اليوم تلك المرأة المسلمة التركية تشتري ثوبا جميلا وثمينا تدخره ليكون هديتها لفاتح القدس والأقصى الآتي بإذن الله تعالى.
وبالعودة إلى الواقع الصهيوني الاحتلال المرتبك والمضطرب نجد أن دولة الكيان اليوم وقد كانت تعد العدة لمعركتها ضد إيران وحزب الله وسوريا وإذا بها تخوض معركة الانتخابات البرلمانية من أوسع الأبواب، الأمر الذي قد يجعلها مضطرة لتأجيل معركتها ضد غزة وحزب الله وإيران، الأمر الذي سيحقق لهذه الأطراف ما كانت تتخوف منه دولة الكيان وهو زيادة المقاومة الفلسطينية لمدى صواريخها وزيادة تسلحها وزيادة حزب الله لترسانته العسكرية واقتراب إيران من إمكانية امتلاكها سلاحاً نووياً.